بقلم: إسماعيل حسني
السلفية هي حالة ذهنية نكوصية ينسحب فيها الإنسان من العالم ويرتد إلى أطواره الأولى، حيث يميل إلى التفكير والتصرف بأشكال بدائية، ويصبح الماضي لا الحاضر هو محور الارتكاز ومركز الانطلاق.
والنكوصية هي إحدى آليات الدفاع المعروفة في علم النفس كالكبت والإنكار وغيرها يقوم بها اللاوعي لمواجهة الهزائم والمحن والصدمات التي يتعرض لها الإنسان، وهي تدفعه للإنكفاء على نفسه واجترار أمجاد الماضي للاحتماء بها من أخطار الحاضر والمستقبل. وتنتهي هذه العملية بتقمص نموذج مريح ومجيد للحياة في عصور سالفة وتخيل إمكانية فرضه على الواقع المعاصر، وهو ما نراه بجلاء في سلفيو عصرنا الحالي، حيث يتبنون الأفكار القديمة، ويرتدون الملابس القديمة، ويتصرفون بنفس الأشكال البدائية القديمة.
إنها حالة تصيب الأفراد والمجتمعات في مراحل الضعف والانكسار، حيث يفقد الناس الثقة في عقولهم وينسحبون من المواجهة، أو يقوم اللاوعي بنقلها من ملاعب الحاضر الممتلئة بالأعداء إلى ملاعب الماضي حيث يصارعون طواحين الهواء.
وتزداد حمى الارتداد كلما ازداد افتقار الناس إلى العناصر الأساسية لثقافة العصر الذي يعيشون فيه من علوم إنسانية وآداب وفنون، وذلك نتيجة للنشأة في بيئة منغلقة، وعدم الاختلاط والتفاعل مع الثقافات الأخرى، أو بتأثير نظام تعليم رجعي، فلا يجدون أمامهم عند الصدمات سوى النبش في الدفاتر القديمة بحثا في وصايا الأسلاف على ما قد يعينهم على البقاء.
ولعل أقرب مثال لهذه الحالة هو الصدمة الهائلة التي أحدثتها الحملة الفرنسية على مصر في مطلع القرن التاسع عشر، حين استيقظ الناس في الشرق العربي والإسلامي على حداثة أفزعتهم وأشعرتهم بالضعف والدونية، من أسلحة فتاكة، وإدارة حديثة، وتقدم علمي، واختراعات عجيبة كالمطبعة والتلسكوب، وتطور كبير في عادات البشر وملابسهم وسلوكياتهم، فكانت الهزيمة، وكان الانكفاء والهروب إلى كهوف الماضي للاحتماء بها.
في ذلك الظرف القاهر تجلت السلفية في أبشع صورها، وقدمت للمهزومين ترياق النجاة، فبدلا من الاعتراف بالتخلف والتقصير ودعوة الناس إلى تغيير ما بأنفسهم واغتنام الفرصة للأخذ بأسباب العلم والحضارة، كان الإنكار هو الحل، حيث تم تصوير المعركة على أنها ليست معركة بين التقدم والتخلف وإنما معركة بين جند الله وجند الشيطان، وبناء على ذلك انحصرت المواجهة في تحريم علوم الشيطان وآلاته، فحرموا قراءة الصحف، وحرموا التلاوة في المصحف المطبوع، وحرموا تشريح الجثث، وحرموا الشرب والوضوء من مياه الصنابير، فكلها من البدع والضلالات التي جاء بها الشيطان ولم ترد في قرآن ولا سنة.
وعلى الرغم من نجاح الأصوات العاقلة بقيادة محمد علي في الإستفادة من التجربة المريرة في وضع أسس بناء الدولة الحديثة وبدء حركة الإحياء العربية بزعامة الرواد حسن العطار ورفاعة الطهطاوي وغيرهما، إلا أن القوى السلفية ظلت كامنة ومتربصة بكل لمحة تقدم أو إزدهار من شأنها أن تنتشل الأمة من غياهب الماضي، فلقد هاجم السلفيون شعارات الثورة الفرنسية (الحرية والعدالة والمساواة)، وهاجموا البعثات الدراسية إلى أوروبا، وحرموا تعليم البنات، وحرموا البنوك وشركات التأمين، وحرموا الديمقراطية والانتخابات، وحرموا الراديو، ورفعوا سيف التكفير فوق رؤوس المفكرين والكتاب، ونجحوا في أبطاء وعرقلة عملية الأحياء، ولا يزالون إلى اليوم يثبطون الهمم، ويوهمون ضحاياهم بإمكانية العودة بالحياة إلى بساطتها الأولى كما كانت في صدر الإسلام.