في نصف قرن من الصحافة، أعجبت بعدد قليل من الرجال الذين يتعاطون شؤون الأرض، وشعرت بالنقمة حيال كثيرين. منذ أن تعرفت إلى هنري كيسنجر على صفحات الأخبار، شعرت أنه رجل لا مكان للأخلاق في عالمه، وأنه إنسان منتفخ بذاته، خلافا لعادة أهل العلم وأساتذة «هارفارد». رأيتني اليوم متفاجئا بأن أنقل كلاما له. فهذا الطاووس يقول إنه التقى الكثيرين من زعماء العالم، ولم يجد أحدا في ذكاء ومعرفة لي كوان يو.
في هذه الخواطر اعتمدت إلى حد بعيد على شرح لي كوان يو لبلد لا يعرف عنه العالم الخارجي كثيرا، والذي هو الصين. تفترض الأمانة أن أكرر ذكره كمصدر في هذا الاتجاه، لكن الأفضل أن أعلن ذلك تعميما على ما سبق وما سوف يلي. لست وحدي من أذهلته تجربة سنغافورة، لكن ما يبهرني أكثر في الرجل، تلك القدرة على التحليل، ومدى جديته في دراسة حركة العالم الخارجية والاقتصادية والاجتماعية، على الرغم من كونه زعيما في دولة صغيرة.
يقول في توصيف الفارق بين أميركا والصين، إن الأولى يجرفها هم الشرق الأوسط ويغرقها: إيران، والعراق، وإسرائيل، والنفط. لكن الصين لا يلهيها عن همها شيء. إنها تبحث عن الطاقة في كل مكان، وتبحث عن أصدقاء في كل مكان، خصوصا في قلب أميركا. وعمادها المستقبلي الأول هو علماؤها الذين يعودون بشهاداتهم من الولايات المتحدة كل عام: هؤلاء هم أداة التغيير وصنع المستقبل. لو لم يحدث النزاع حول سوريا في مجلس الأمن، لما سمعنا شيئا عن الصين. لولا حرب ليبيا، لما عرفنا أن فيها 30 ألف عامل صيني. في حين يفضل الأميركيون والروس الصخب من حولهم، «يتسلل» الصينيون في هدوء متخفين خلف ابتسامة مرسومة. يعيشون معزولين لا يتعاطون مع أحد. يعملون ويعملون ويعملون. لعل أحدكم ينتبه الآن إلى أنه لم يرَ صينيا في مطعم أو على الطريق أو في «مول». الفترة التي عشتها في دبي كنت أرى في «المول» جميع وجوه الأرض. لم أرَ صينيا حتى في المطاعم الصينية، إلا العمال.
سوف يأتي يوم نكتشف فجأة أن ثمة قوة كبرى بيننا اسمها الصين. وأن هذه القوة، مثل جميع الدول الكبرى، لا ترسم سياساتها وفقا لمعايير وقيم أخلاقية. بل سوف نفاجأ بها، تقف إلى جانب عدوتها القديمة روسيا، ضد كتلة الدول الإسلامية ومجموعة الدول العربية.
وفجأة سوف نرى أن لها وزنا سياسيا في قلب حياتنا، وأنها ليست بعيدة كما كنا نظن. فقد غيرت اتجاه الصراع في سوريا بسبب تحالفها مع روسيا وإيران. وقد أمضت عمرها في مجلس الأمن لا تقترع إلا بورقة بيضاء، وفجأة وقفت تصرخ: «الفيتو». ثم «الفيتو». إلى اللقاء.
الشرق الاوسط