لقد نسفت قنابل الطائرات الإسرائيلية، التى تساقطت فوق مطاراتنا يوم 5 يونيو «الشللية»، والأخطاء الكبيرة، والتستر على تلك الأخطاء.. كما أنها حرقت الجهل بفنون القتال الحديث لكى تفسح الطريق، دون قصد منها طبعاً، لجيل جديد من الرجال يملك العلم والقدرة المرتفعة على التخطيط والتنفيذ على أعلى مستوى قتالى معاصر، ويملك قبل كل شىء الرغبة فى الانتقام. ورب ضارة نافعة. وصدق الله عز وجل حين قال فى كتابة العزيز «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم».
فى مذكراته «كلمة السر» يعود مبارك إلى الأسباب التى دعته إلى كتابة يوميات سلاح الجو بين عامى ١٩٦٧ و١٩٧٣.. ويفسر لماذا قرر ذلك فى عام ١٩٧٨: أكتب هذه المذكرات انطلاقاً من شعورى بالمسئولية تجاه المواطن المصرى، والقوات الجوية، والقوات المسلحة المصرية كلها، واستجابة لمسئوليتى تجاه التاريخ والحقائق التى يجب أن يطلع عليها الجميع.
وأشعر بفداحة تلك المسئولية منذ نبتت فكرة هذا الكتاب الذى يحكى ملحمة الطيران المصرى كاملة، بدءاً من ضربة الخامس من يونيو عام 1967، حتى ضربة «صدام» التى استعاد بها الطيار المصرى سمعته كمقاتل جرىء ومقتدر، فى الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر عام 1973. إن المرجع الأساسى لذلك الإحساس هو ذلك الرصيد الهائل من الإعلام الإسرائيلى، الذى امتزج فيه قدر محدود من الحقائق بقدر لا محدود من الأكاذيب والخيالات التى صيغت بذكاء شديد.
وفى أغلب فصول مذكراته يبدو مبارك مهتماً للغاية بالتأثيرات النفسية والمعنوية لهزيمة ٥ يونيو كما لو أن الضربة الجوية التى جهز لها فى يوم ٦ أكتوبر كانت تستهدف تحقيق الانتصار المعنوى والنفسى قبل أن تحقق الانتصار العسكرى.. يقول: لقد نجح الإعلام الإسرائيلى فى تحويل ضربة إسرائيل للطيران المصرى صباح 5 يونيو 1967 من مجرد خطة عادية -إذا قيست بالمقاييس العسكرية المحايدة والموضوعية- فى إطار الظروف التى تمت خلالها الضربة على جانبى الصراع، إلى أسطورة خيالية تروى أمجاداً خرافية لواضع الخطة «مردخاى هود» وهيئة عملياته العسكرية.
لقد عُرفت تلك الضربة فى الملفات السرية لوزارة الدفاع الإسرائيلية باسم «طوق الحمامة»، ويعود القدر الأكبر من النجاح الذى حققته إلى هذه الصدمة النفسية التى أصابت جماهير شعبنا المصرى، وأمتنا العربية كلها، وهى ترى «أكبر قوة جوية ضاربة فى الشرق الأوسط» -كما كانت القيادات العسكرية المصرية السابقة تُصرح دائماً- تتحطم وهى جاثمة على الأرض، فى ضربة سريعة لم تتجاوز منذ بدايتها فى الساعة 8:45 صباحاً إلى نهايتها نحو الساعة العاشرة، ساعتين فقط.
عامل آخر ساعد على إشاعة الجو الأسطورى حول ضربة إسرائيل للطيران المصرى، وهو الأقاصيص والحكايات المبالغ فيها كثيراً، والتى رواها الجنود العائدون -على أقدامهم- عبر سيناء، تنفيذاً لقرار الانسحاب الذى أصدرته القيادة العسكرية للقوات البرية فى الوقت الذى فقدت فيه هذه القوات أى حماية جوية، فأصبحت خلال عمليات الانسحاب المتسرع غير المنظم مكشوفة تماماً للعدو الجوى، ومعرضة لطيرانه الذى أسكرته نشوة النصر المذهل -حتى بالنسبة لأكبر المتفائلين فى قيادة الطيران الإسرائيلى- فمضى الطيارون الإسرائيليون يعربدون فى سماء سيناء، ويعبثون بالقوات البرية المصرية العائدة، وهم فى مأمن من أى حساب أو عقاب رادع.
ويُضاف إلى ذلك عامل أخير، لعله فى تقديرى أخطر هذه العوامل جميعاً، وهو تلك الأعداد الهائلة من أبناء مصر -سكان مدن القناة- الذين تحولوا مع تصاعد العمليات القتالية على جبهة السويس إلى مُهجّرين، موزعين فى معظم مدن مصر وقراها، وما حمله معهم هؤلاء الإخوة من قصص العدوان الإسرائيلى المتغطرس، والذى كان طيران إسرائيل يمثل رأس الحربة فى كل عملياته.
إن رؤية المواطن المستقر فى داره وعمله، وسط أهله وأصحابه الذين عاش عمره بينهم، لأخ له فى الوطن، وقد أُرغم على ترك مسقط رأسه ومسرح حياته العملية والاجتماعية، ثم تحول رغماً عنه -وتحت وطأة عمليات عسكرية عدوانية- إلى مُهجّر يعيش فى معسكر أو مخيم، ويعيش على إعانة مهما تعاظم قدرها، فهى بالقياس إلى دخله الأصلى محدودة، ودون ما اعتاد أن ينفق على نفسه وذويه؛ هذه الصورة القاسية، حين يشاهدها المواطن المصرى -ويسمع بها أو يراها الإنسان العربى- بعد 5 يونيو 1967، كان لها فعل السحر الأسود فى نفسه، وربما بعثت إلى ذهنه ووجدانه على الفور، بصورة مماثلة طالما قرأ عنها أو سمع بها عام 1948، حين نجحت إسرائيل عشية إعلان قيامها كدولة، فى طرد الملايين من عرب فلسطين وأصحابها الشرعيين، وتحويلهم إلى لاجئين يعيشون فى المخيمات، على صدقات المجتمع الدولى.
وقد تضافرت مع هذه العوامل فى تحقيق الهدف النهائى، الذى سعى الإعلام الإسرائيلى عقب 5 يونيو إلى تحقيقه فى نفسية الإنسان العربى، وهو التهويل لهذه العملية العسكرية التى لا تخرج فى التحليل العلمى عن منهج من الفكر العسكرى الألمانى والإنجليزى -مع بعض الإضافات اليسيرة التى تتفق مع طبيعة وتكوين العقلية العدوانية المسيطرة على قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية- وحصيلة كل هذا أن تحول الطيران الإسرائيلى إلى خرافة وتحول الطيار الإسرائيلى إلى شبح، تنسج مخابرات العدو حوله الأساطير، وتشيعها عبر أجهزة الإعلام العالمى.
وإذا كنا -نحن العرب بوجه عام والمصريين بوجه خاص- نعيب على الإسرائيليين، عسكريين وساسة، تلك المستويات الرهيبة من الغرور والغطرسة التى لا تطاق، والتى استولت عليهم فكراً وسلوكاً، عقب انتصارهم المفاجئ والمذهل، الذى حققوه بأبخس الأثمان، فإننا لا نرضى لأنفسنا -نحن المصريين بالذات- أن يؤخذ علينا ما عبناه على خصمنا، فنستسلم لنشوة النصر الذى حققته قواتنا المسلحة -بجميع أفرعها- يوم 6 أكتوبر، بحيث قضت فى ست ساعات على أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يُقهر، فإذا به، بشهادة العدو قبل الصديق، وبعد ست ساعات فقط يترنح من هول الضربات التى كالها له المقاتل المصرى جواً وبراً وبحراً.
ومع يقظتنا الكاملة لهذا المنزلق العاطفى الخطر، الذى يمكن أن يجرنا إليه الإحساس القوى بالنصر الساحق الذى زلزل كيان العسكرية الإسرائيلية.. فإننا -مع كل التواضع الذى تمليه الثقة الكاملة بالنفس، والإيمان الراسخ بالقدرة القتالية الهائلة للجندى المصرى- لا يسعنا إلا أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهى أن إسرائيل تؤمن إيماناً راسخاً، بأن عدوها الأول، وخصمها الأخطر شأناً، والأثقل وزناً، هو مصر، وشعبها الأمين.. ذلك الشعب الذى ظل ثابتاً على أرضه كالطود الراسخ يحمى حضارته التى زرعها فى وادى النيل، وحماها ضد موجات الغزو الأجنبى، التى تكسرت على شاطئ صلابة المصريين طوال عصور التاريخ القديم والوسيط والحديث.
فى مذكراته المهمة تلك يؤصل مبارك، نائب الرئيس الأسبق وقت كتابتها، للأسباب التى يعتقد أنها أدت إلى تعامل إسرائيل مع مصر باعتبارها الخصم الأخطر.. يقول: السبب الأول عسكرى بحت، تمثل فى تكثيف الضربة الموجهة إلى جيش مصر وطيرانها، بحيث أدى هذا التكثيف فى حجم الضربة والعناصر التى استُخدمت فيها -حيث ألقت إسرائيل بكل ثقلها العسكرى تقريباً جواً وبراً على الجبهة المصرية- إلى إحداث شلل مفاجئ فى القيادة المصرية. إن هذا أدى، مع عنصر المفاجأة، إلى ما أدى إليه من هزيمة ساحقة، وغير طبيعية فى نفس الوقت، خرجت بها مصر مهزومة من معركة لم تقم فى الواقع. وكانت النتيجة الحتمية، بعد أن خلا مسرح العمليات من الوجود المصرى الذى تحسب له إسرائيل ألف حساب، أن تفرغت العسكرية الإسرائيلية لباقى أطراف الصراع، على الجبهتين السورية والأردنية، وهى واثقة تماماً من تحقيق النصر، بعد أن فرغت من خصمها الألدّ، وعدوها الأخطر: مصر وجيشها.
المنطق الثانى أخذ شكل الحرب النفسية المسعورة، التى شنّها الإعلام الإسرائيلى بلا هوادة أو رحمة، واستهدف بها تحطيم معنويات الإنسان المصرى -باعتباره الركيزة الأولى فى الصراع العربى- الإسرائيلى، فإذا نجح هذا الإعلام فى زعزعة هذا الإنسان المصرى، وخلخلة بنائه النفسى الصلب، فإنه يفقد ثقته بنفسه وثقته بقواته المسلحة، وبقدرة هذه القوات على شن هجوم مضاد، لتحرير أرضه المحتلة، وبالتالى ينهزم نفسياً حتى النخاع، بعد هزيمة عسكرية لا مجال للتشكيك فيها، ومن ثم سينطوى على نفسه، ثم تتجه حركته -إذا قُدر له أن يتحرك- فى اتجاهين مدمرين، أولهما: فقدان الثقة فى قيادته السياسية التى انتهت به إلى هزيمة ساحقة، وما يتبع فقدان الثقة من تمزق وانفجارات تؤدى فى النهاية إلى انهيار الجبهة الداخلية التى أذهلت كل الخبراء والمحللين العالميين بصلابتها الأسطورية عام 1967 وما تلاها من سنوات الصمود.
إن الخطر الأكثر تدميراً هو موقف الإنسان المصرى فى قضية الصراع العربى- الإسرائيلى كان يكمن فى احتمال عاشت إسرائيل، ولعلها لا تزال تحلم به، بأن تؤدى الخسائر التى مُنى بها الشعب المصرى كنتيجة حتمية لضربة 5 يونيو، إلى وقوفه موقف المتشكك المرتاب فى القضية كلها، وأن ينتهى به هذا الموقف المتردد إلى رفض كامل فى النهاية، يعقبه انعزال مصر عن القضية برمتها. وتلك أعذب أمنيات الفكر الإسرائيلى؛ أن تنجح فى الوقيعة بين الإنسان المصرى وبين أمته العربية جمعاء، وقيعة تنتهى إلى انعزال مصر وخروجها من حلبة الصراع نهائياً، لكى يخلو الجو لإسرائيل، تعربد فيه كما تشاء، وتصنع بالمنطقة ما تريد، وتعيد رسم خريطة المشرق العربى على هواها.
لعل هذا يفسر لنا ضراوة الإعلام الإسرائيلى فى هجومه المخطط المدروس بإحكام ودقة بالغين، على عقل الإنسان المصرى وعاطفته معاً، هجوماً استخدمت فيه كل وسائل الإعلام الحديث، وجندت له كل أساليب الحرب النفسية الحديثة.
عشرات الكتب والمؤلفات التى تتحدث عن «حرب الأيام الستة» قدمت لها وزارات الدفاع والخارجية والإعلام الإسرائيلى كل الإمكانيات والتسهيلات الوثائقية والمادية، وعشرات الأفلام (التسجيلية والروائية) التى تم إنتاجها ببذخ خرافى، وبحرفية سينمائية بالغة الدقة والذكاء، تصور كلها بطولات جيش الدفاع الإسرائيلى، وتتغنى بأمجاد «طيران إسرائيل»؛ ذراعها الطويلة ذات المخالب الجهنمية القادرة على سحق أى هدف فى أعمق أعماق الوطن العربى، وخاصة فى ربوع خصمها اللدود الخطير؛ مصر. مئات -ولا نبالغ إذا قلنا آلاف- المقالات والأبحاث العلمية والندوات التى تنشرها أو تذيعها وتعرضها وسائل الإعلام يتغنى كتّابها ومذيعوها «المحايدون» -كما يسمون أنفسهم- بأمجاد العسكرية الإسرائيلية، من ناحية، ويسخرون بهزال العرب وضعفهم وتخلفهم من ناحية أخرى.
ثم.. أخيراً وليس آخراً؛ هذا السيل الرهيب من الأقاصيص المصنوعة -داخل مكاتب المخابرات الإسرائيلية- عن بطولات رهيبة، وقدرات أسطورية لجيش «الدفاع» الإسرائيلى وطيرانه الرهيب. ولعل هذا اللون الأخير من ألوان الحرب النفسية التى شنّها العدو ضدنا، عقب 5 يونيو، كان أخبث وسائلها على الإطلاق، لأنه كان يسعى إلى تحقيق هدفين واضحين منذ البداية: غرس الفزع فى نفس الإنسان المصرى -مدنياً كان أو عسكرياً- من هذه المقولة الخرافية «الذى لا يُهزم أبداً»، ثم قتل الثقة والاحترام اللذين يكنّهما المواطن المصرى لجيشه، عن طريق سيل متلاحق من النكت المرّة التى تسخر من المقاتل المصرى ومن قدرته على الصمود فى الميدان وعجزه عن مواجهة المقاتل الإسرائيلى، سواء تمت هذه المواجهة على الأرض أو فى السماء.
من الحقائق المسلم بها -فى الفكر العسكرى قديمه وحديثه- أن العدو الذى ينجح، عن طريق الحرب النفسية، فى نشر الفزع فى صفوف المدنيين على الجهة المعادية، ثم تصعيد هذا الفزع إلى احتقار للجيش الوطنى والسخرية منه وعدم الثقة به؛ يضمن فى النهاية النصر الكامل والساحق لقواته عند أول مواجهة له مع الخصم الذى نجح فى تدمير معنويات شعبه.
هذه الحقيقة التى جرت الآن مجرى البديهيات فى الفكر العسكرى، كانت نقطة البداية -كما سيتضح فى تلك المذكرات- عندما تحركت العسكرية المصرية بقيادتها الجديدة -بعد 5 يونيو مباشرة- لتحقيق الصمود النفسى أولاً للمقاتل والإنسان المصرى، قبل أى خطوة على الطريق الشاق الطويل الذى انتهى إلى معارك السادس من أكتوبر المجيدة.
ورغم ما حققه جيش مصر البطل -بكل أنواعه وأسلحته- من بطولات فى السادس من أكتوبر تُعتبر، كما قال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، «معجزة عسكرية بأى مقياس من مقاييس الفكر العسكرى» فإن ضراوة الحرب النفسية التى شنها علينا العدو عقب 5 يونيو وقبل 6 أكتوبر كانت مثار اهتمام كل مصرى، سواء فى أعلى مستوى من مستويات القيادة السياسية والعسكرية، أو لدى المواطن المصرى العادى.
وفى كتابه هذا، يصر مبارك على ألا يعتبر ما حدث فى يوم ٥ يونيو «معجزه» أو ضربة «أسطورية» كما حاولت إسرائيل أن تصورها.. يقول: كنا كعسكريين نعرف جيداً على الطبيعة -ودون تأثر بعوامل التحامل أو التحيز الوطنى ضد عدونا أو لصالح قواتنا المسلحة- أن ما حدث فى 5 يونيو، ليس معجزة مطلقاً، ولا هو خارقة من الخوارق التى تستحيل مجاراتها أو اللحاق بها. وكانت القيادة العسكرية المصرية، التى تولت مسئولية وشرف الإعداد للسادس من أكتوبر، تعرف بحكم دراساتها العليا، وتمكنها من فنون الفكر العسكرى -سواء فى معاهد الغرب أو الشرق- أن ما حدث فى معارك 5 يونيو، مجرد استغلال جيد لظروف معينة وُجدت على جانبى جبهة الصراع، وهو أمر لا يشكل عبقرية عسكرية، ولا يستأهل كل ما نُسج حوله من أساطير وخرافات، بلغ من شيوعها أن الإسرائيليين أنفسهم وهم الذين صنعوها لكى يرعبوا بها العرب ويخدّروهم عن واقعهم، وقعوا فى نفس المصيدة، والتقطوا بغباء غريب عليهم فعلاً، نفس الطعم الذى أجهدوا خبراءهم فى صنعه واختلاقه لكى تلتقطه شعوب الأمة العربية، وفى مقدمتها شعب مصر.
ولقد وصل بهم خداع النفس -القائم على الغرور والغطرسة والاستسلام دون وعى لنشوة النصر غير الطبيعى بينما قادة إسرائيل يعرفون بينهم وبين أنفسهم أن نصرهم فى 5 يونيو كان غير طبيعى فى مجمله- أقول: وصل بهم خداع النفس إلى الحد الذى دفع بأحد قادتهم العسكريين الكبار (رئيس الأركان ديفيد أليعازر) إلى أن يصرح قبيل 6 أكتوبر، للصحافة العالمية، بأن «البحر الأحمر قد أصبح -بفضل الطيران الإسرائيلى ذراع إسرائيل الطويلة القوية- بحيرة إسرائيلية.. وعلى العرب جميعاً أن يوطنوا أنفسهم على هذا كأمر واقع يتصرفون على ضوئه».
لو أننا وزنّا هذا التصريح لقائد عسكرى كبير -مفروض فيه أنه يحترم نفسه ويحترم كلامه- بموازين الفكر العسكرى السليم وقواعده العلمية لوجدنا أنفسنا أمام احتمالين لا ثالث لهما:
الأول: أن يكون «أليعازر»، حين ألقى بهذا التصريح، قد استوثق تماماً من وصوله بقواته -بجميع أسلحتها- إلى المستوى الذى يستحيل معه أن تلحق بها أية هزيمة عسكرية، سواء من حيث مستوى الإعداد والتدريب، أو من حيث مستوى التسليح كماً وكيفاً.. كما أن عليه فى نفس الوقت أن يستوثق -عن طريق استخباراته العسكرية- من أن قوة خصمه لم تتصاعد بأى حال إلى المستوى الذى يُشكل لجيشه تهديداً أو شبه تهديد عند حدوث أى اشتباك.
وإذا صح للقائد العسكرى -الذى يحترم نفسه، ويحترم عقل قواته- أن يفاخر بارتفاع قدراته القتالية، فإن مسئوليته كقائد ومفكر عسكرى تفرض عليه أن يتناول كل ما يتصل بخصمه بحذر شديد، لأن التجارب العملية أثبتت دائماً أن أى خصم مهما كان شأنه عنده دائماً ما يخفيه عن أكثر العيون قدرة على التلصص وأكثر الآذان تدريباً على التسمُّع. فإذا أغفل القائد العسكرى هذه الحقيقة البسيطة فقد وضع بنفسه أول طوبة فى بناء بشع اسمه «الفشل».
الاحتمال الثانى، الذى يُمكن تفسير كلام القائد الإسرائيلى على ضوئه: أن تكون أجهزة الحرب النفسية فى إسرائيل قد وصلت فى ممارستها فى مهمتها ضد العرب عموماً ومصر وشعبها خصوصاً، إلى درجة التشبع، بحيث تحولت بمهامها الدعائية -دون أن تدرى- إلى عقول القادة الإسرائيليين أنفسهم، فإذا بهم يصدقون الأكاذيب التى اختلقوها حول القوة الأسطورية لجيشهم الذى لا يُغلب.. وإذا بكبيرهم -فى ذلك الوقت- «ديفيد أليعازر» يدلى بتصريحه الغريب.
ولم يكن أليعازر وحده الذى أُصيب بحمى الغرور، فقد كان هناك سباق عجيب بين قادة إسرائيل -العسكريين والسياسيين على السواء- فى إلقاء مثل هذه التصريحات الخالية من أى تعقُّل، لو وزنّاها بأى ميزان فكرى سليم على المستويين العسكرى والسياسى.
إن «حاييم بارليف» -صاحب الخط الشهير الذى أنفقت إسرائيل على إقامته وتحصينه مئات الملايين من الدولارات ثم انهار بعد ساعات ست من الضربات القاسية التى كالها له المقاتل المصرى الشجاع المدرَّب جيداً، المسلَّح جيداً- «حاييم» هذا، يصرح يوم 5 فبراير 1971 لوكالة الأنباء الفرنسية، بقوله: «ليست لدى المصريين أدنى فرصة للنجاح، إذا هم حاولوا عبور القناة، من المؤكد أن لديهم الوسائل اللازمة لمثل هذه المهمة، ولديهم خطط للعمل، ولكن ما ينقص مصر هو الجيش الذى يستطيع أن يخطط، وينفذ، ويقاتل».
ثم يعود فى 8 مارس عام 1973 ليصرح بقوله: «أقول باختصار: إذا استأنفت مصر القتال، فإن إسرائيل لن تخسر موقعاً واحداً».
وقد كان «موشى ديان»، فيلسوف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، الذى تحطم هو وكل نظرياته عن «الأمن الإسرائيلى» فوق صخرة 6 أكتوبر، يؤكد دائماً وفى كل مناسبة بأن «مصر لن تحارب قبل عشر سنوات إذا هى فكرت فى الحرب فعلاً».. وهو أيضاً القائل: «إن الجبهة المصرية لا تستحق من جهد جيش إسرائيل أكثر من ستين دقيقة».
فى تقديمه لكتابه يعلق مبارك على مجموعة التصريحات والأحاديث الإسرائيلية التى انهمرت على مصر والدول العربية.. يقول عنها: لم تكن هذه التصريحات تعنى عند العسكرية المصرية سوى معنى واحد؛ أنه حدثت بالتدريج، وبدون قصد من العدو -وبقصد كامل من جانبنا- عملية تبادل للمواقع النفسية. وإذا سلمنا بأن السلوك البشرى -كما هو فى الواقع والتحليل العلمى- رد فعل عملى للدوافع النفسية والاقتناعات العقلية؛ فإن تصريحات قادة إسرائيل، بكل صلفها وغرورها، كانت تعنى بالنسبة لنا نحن المصريين، أننا -قبيل معارك 6 أكتوبر- قد نجحنا فى تبادل المواقع النفسية التى كنا نحتلها -قبل 5 يونيو- فتركنا موقع الغرور والتفاخر والمظاهرات السياسية الهوجاء للإسرائيليين، وأخذنا بدلاً منها موقع الحذر، والعمل الدائب فى صمت، والتخطيط العلمى المدروس فى الخفاء.
كانوا يدركون قوتهم، ويبالغون فى إحساسهم بهذه القوة فى الإعلام -بل الإعلان- عنها، وكنا نصمت غالباً.. وإذا اضطررنا للكلام، فبالقدر الذى لا يشيع اليأس فى نفس المواطن المصرى والعربى، ولكنه لا يساعد فى نفس الوقت على تنبيه العدو إلى مستوى خطر -بالنسبة له- من مستويات التدريب أو التسليح، نكون قد نجحنا فى تحقيقه.
وكانت حمى التصريحات التى انتابت قادة إسرائيل متفقة تماماً مع الأهداف الخفية للعسكرية المصرية، ولكن خطرها الذى كنا نعمل له ألف حساب، هو تأثيرها على المواطن المدنى، الذى لا يعلم ما نعلمه -نحن العسكريين- سواء بالنسبة لقوة العدو، أو لقوتنا المتزايدة باستمرار.
ومن هنا كان الإحساس الخطير بالمسئولية، عن ضرورة نجاح إعلامنا العسكرى بالذات فى تحقيق المعادلة الصعبة التى تتمثل فى الاستمرار فى خداع العدو المغتر بقوته، المنتشى بنصره السريع فى 5 يونيو 1967، مع الحفاظ فى نفس الوقت على الدعائم الضرورية لسلامة نفسية المواطن المدنى، والاحتفاظ له بالقدر الكافى من الثقة فى قواته المسلحة، ثقة تصد عنه الهجمات الضارية التى تشنها عليه أجهزة الحرب النفسية لدى إسرائيل.
وللحقيقة والتاريخ؛ فقد كانت تلك عملية شاقة على جميع الأطراف، سواء بالنسبة لأجهزة الإعلام عامة، والإعلام العسكرى خاصة، أو بالنسبة للمواطن المصرى الذى استمد من شجاعته وصلابته الأصيلة القدرة على الصمود فى مواجهة الحرب الدعائية للعدو، وعدم الاستسلام للسموم الخبيثة التى كانت أجهزة العدو المدرّبة، تبثها بجميع الوسائل المستحدثة.
وأخيراً.. حلت ساعة الصفر، التى استبعد العدو مجيئها، بينما عاشت الملايين فى مصر والأمة العربية كلها تتحرق شوقاً للقائها. وفى الساعة الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر عام 1973، وتنفيذاً لأمر القائد الأعلى الرئيس السادات، عبرت مائتان وعشرون من طائراتنا القاذفة الثقيلة، والقاذفة، والقاذفة المقاتلة، عدا طائرات الحماية والاعتراض.. عبرت كلها وفى ثانية واحدة، وطبقاً للخطة، «صدام» الخط «س» فى نفس اللحظة، لتنطلق بعده إلى مواقع العدو وشرقى القناة كى ترد له الدَّين الذى فاجأها به منذ ستة أعوام فى الخامس من يونيو عام 1967.
وفى الثانية والثلث -وبعد مُضىّ عشرين دقيقة تقريباً، كنت فى غرفة العمليات، أستقبل «التمام» من مختلف القواعد الجوية، لكى أعيد إبلاغه فى نفس اللحظة للقائد الأعلى فى غرفة العمليات المركزية. لقد نجحت الضربة «صدام» فى تحقيق أهدافها ضد العدو بنسبة تجاوزت 95٪ ولم تتجاوز خسائر قواتنا الجوية فى هذه العملية المركزة، نسبة 1٪ فقط، رغم أن عدد الطائرات المشتركة فيها قارب الثلاثمائة.. وهى نتائج تُعتبر وسام شرف لأية قوة جوية فى العالم، لأنها حطمت جميع الأرقام القياسية العالمية السابقة، سواء فى عدد الطائرات المشتركة فى ضربة واحدة، أو فى نسبة تحقيق الأهداف ضد العدو، أو هبوط نسبة الخسائر بين القوة المهاجمة.
وبمجرد أن تأكدت القيادة العليا من نجاح الضربة الجوية المكثفة «صدام» دارت آلة الحرب الجهنمية، وتحركت جحافل المقاتلين المصريين تعبر القناة، وتلتحم بجنود الجيش الذى كان لا يُقهر. وتتوالى المعارك لتؤكد بطولة وفعالية المقاتل المصرى الذى يشعر بالأمن والثقة لأن قواته الجوية، التى أخذت الدرس والعبرة من أخطاء 1967، قد صممت على الانتقام. ولقد اعترف العدو نفسه، وشهد العالم أجمع: المراسلون الحربيون، والخبراء العسكريون، بأن الطيار المصرى المقاتل أثبت وجوده بجدارة وفاعلية -خلال معارك أكتوبر- سواء فى الضربة الأولى التى فاجأت العدو وحطمت له مراكز القيادة والسيطرة، ومراكز الإعاقة والتشويش، ومواقع بطاريات الصواريخ «هوك» المنتشرة شرقى القناة، أو فى طلعات المعاونة الجوية للقوات البرية فى زحفها المنتشر على أرض سيناء، أو فى معارك الاعتراض والقتال الجوى، ضد طيران العدو، الذى حاول اختراق مجالنا الجوى طوال أيام القتال.
وفى كل هذه المجالات كان الطيار المصرى المقاتل حريصاً على أن يكتب بعرقه ودمه -بل وبحياته شهيداً- لوحة جديدة فى ملحمة الطيران المصرى، التى كانت بدايتها صدمة 5 يونيو 1967، ونقطة الوصول السعيدة ظهر السادس من أكتوبر 1973.
وهنا أستطيع أن أجيب عن السؤال الذى طرحته فى بداية هذه المقدمة: هذا الكتاب.. لماذا ؟!
لقد عمدت أجهزة الإعلام الإسرائيلية عشية «حرب الأيام الستة» -كما سموا معارك 5 يونيو- إلى التهويل الأسطورى الذى يقترب من حد الخرافة، فى حديثهم عن الضربة الإسرائيلية للطيران المصرى.. ولولا صلابة الإنسان المصرى عقلاً وعاطفة، لانهار بناؤه النفسى أيام هذه الحرب النفسية الضارية. وإذا كان الطيران المصرى قد استطاع أن ينتقم لنفسه فى 6 أكتوبر، وأن يرد الصفعة بصفعات أشد عنفاً وقسوة على العدو المتغطرس؛ فإن الواجب نحو الطيار المصرى المقاتل، الذى كتب خاتمة سعيدة ومشوقة لملحمة بدأت بداية حزينة فى 5 يونيو 1967، يحتّم أن يعرف أهله وذووه، ماذا فعل لهم ومن أجلهم.. فى معارك السادس من أكتوبر.
هذا الكتاب أيضاً يفرضه الواجب نحو المواطن المصرى العادى الذى عاش سنوات وسنوات، وهو أسير خوف غامض، من عدو أسطورى له ألف ذراع اسمه الطيران الإسرائيلى الذى صورته الدعاية الإسرائيلية، على أنه تنين خرافى له مخالب لا نهاية لطولها، ولا راد لقوتها، ولا مُعقب لحكمها وإذا كان هذا المواطن المصرى الشجاع -الصلب الإرادة صلابة تحطمت على جدرانها كل دعايات العدو وسمومه- قد صمد فإن ما حققه الطيران المصرى من نجاح فى المعركة، يمثل جانباً من الجزاء لصبر هذا المواطن الصبور، ولكن جزاءه الأوفى يتمثل فى اطلاعه على الصورة الكاملة لملحمة طيرانه المصرى، منذ لحظة القيام من الصدمة، إلى سنوات الإعداد الصامت إلى لحظة الصدام الخالدة التى تحطمت فيها أسطورة الطيران الإسرائيلى الذى لا يُقهر.
من هنا يأتى الإحساس بالمسئولية أمام المواطن المصرى بكل صبره وجلَده، وبكل تضحياته الشجاعة فى سنوات الإعداد للمعركة، وخلالها، وبعد أن توقف القتال فى انتظار الحل الشامل العادل للقضية.
فحق هذا المواطن الذى ضحى أن توضع الصورة كاملة بين يديه، بلا تهوين من أمر العدو -كما فعل خصمنا الذى اعتز بنصره عام 1967- ودون تهويل فى ملامح الصورة على جانبنا القومى.
الحقيقة.. والحقيقة وحدها، هى ما يحتاجه المواطن المصرى إذا أردنا أن نضع أمامه صورة ما جرى فى 6 أكتوبر ومعاركه الخالدة.
والتزام الحقيقة فى الحديث عن إحدى حلقات الصراع مع عدو لم يلتزم طيلة حياته بالصدق لحظة واحدة، فى كل ما كتبه عن معاركه ضدنا ليس بالأمر الهيّن على النفس، ولكننا نلتزم به، إيماناً بالمسئولية أمام الجيل الحالى من طيارى مصر الشجعان، الذين خاضوا التجربة باقتدار وفدائية منقطعة النظير، وهى مسئولية أمام الأجيال القادمة من طيارى المستقبل؛ أذرع مصر المحلّقة فى سماء التضحية والبذل، فحقهم -حين يأتى دورهم- فى تحمل الأمانة أن يكون بين أياديهم سجل أمين، بالغ الصدق والدقة فى تصوير ما كان.. حفزاً لهم نحو ما ينبغى أن يكون.
والتزام الصدق، أولاً وأخيراً، هو مسئولية أمام المواطن المصرى الذى ضحى فى شجاعة صامتة، وحقه أن يعرف الحقيقة، وأن يستوثق تماماً، من أنه لم ينخدع هذه المرة أيضاً، كما خُدع من قبل فى مواقف سابقة، كانت الهزيمة تتحول إلى نصر تعرف الدنيا كلها أنه نصر شعارات وهمية، بينما الإنسان المصرى صاحب الحق الأول فى معرفة الحقيقة، هو الوحيد الذى تُخفى عنه الحقيقة.
وإذا كنتُ قد شاركت، بحكم موقعى العسكرى، أثناء معارك أكتوبر المجيدة كقائد للقوات الجوية المصرية وأُتيح لى بحكم هذا الموقع أن أعرف من الحقائق ما ييسر لى تقديم الصورة الكاملة لملحمة الطيران المصرى، فإننى سأحاول تقديم هذه الصورة برؤية جديدة، أكثر شمولاً، وأكبر عُمقاً، فى تفسير الأحداث والوقائع، بعد أن شرّفنى الرئيس القائد الأعلى محمد أنور السادات، بالعمل معه كنائب لرئيس الجمهورية.
إننى آمل أن يجد القارئ المصرى خصوصاً والعربى عموماً فى هذا الكتاب ما هو بحاجة إلى معرفته عن نسور مصر الشجعان، والملحمة البطولية، التى بدأوا فى كتابة سطورها عقب ضربة الخامس من يونيو 1967 بساعات.
كما أرجو صادقاً أن يجد العدو فى هذا الكتاب، وهو سيقرأ بلا شك ما سأكتبه، تحليلاً دقيقاً لميدان من أخطر ميادين الصراع العربى- الإسرائيلى هو ميدان التسابق على السيادة الجوية فى المنطقة. وهو تحليل يكتبه طيار مقاتل، عايش التجربة بكل جوانبها المظلمة والمضيئة. ولعل العدو ينزع فى النهاية من رأسه كل جذور الغرور وبذوره، حين يستوثق تماماً أن الأمة العربية بوجه عام، والشعب المصرى بوجه خاص، قد انتزع من براثن الهزيمة الساحقة نصراً مؤكداً، وأنه لا يوجد فى العصر الحديث شىء اسمه المستحيل ما دامت هناك إرادة، وما دام هناك هدف محدد وإصرار لا يعرف التراجع، سعياً إلى هذا الهدف، كما أرجو أن ينزع العدو من رأسه أحلام التفوق التكنولوجى.
لقد أثبتت معارك أكتوبر، وهى أول حرب إلكترونية متكاملة فى العالم، سواء فى مجال الطيران أو الدفاع الجوى أن المقاتل العربى الجديد مقاتل مثقف عسكرياً مكتمل الثقافة القتالية، متمكن من فنية سلاحه مهما كان سلاحه بالغ التعقيد. وهذا الجيل الجديد من المقاتلين هو صيحة التحذير الحقيقية، التى يطلقها شعبنا والأمة العربية معه لكى يفيق العدو ويتراجع إلى حجمه الصحيح، متخلياً عن أحلام السيطرة والتوسع التى أوقعته فى مأزق الحرب الرابعة التى وصفها الجنرال الأمريكى «إيثيل بانجر» حين قال فى تعقيبه على معارك أكتوبر: «إن إسرائيل بقيت قائمة كدولة لأننا لم نخنها، فبدون الأسلحة والنفاثات الأمريكية، كان محتوماً أن تفنى إسرائيل».