بقلم : إسحق إبراهيم
عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة صباح الأربعاء 14 أغسطس، اندلعت موجة من الاعتداءات التي استهدفت الأقباط وكنائسهم. الموجة المسعورة التي لم تشهد مصر الحديثة مثيلا لها، وقد أسفرت عن حرق ونهب 44 كنيسة إضافة إلى عشرات المباني التابعة لمؤسسات مسيحية وأقباط، وسقط فيها سبعة من المواطنين قتلى علاوة على العشرات من المصابين.
وقد وُجِّهت سهام الاتهام مباشرة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأنصارها من تيارات الإسلام السياسي، ما دعا الجماعة - على لسان المتحدث الرسمي لها أحمد عارف - إلى نفي أي علاقة لها بحرق الكنائس و المنشآت التابعة لها. كذلك هرعت الجماعة الإسلامية إلى نفي صلتها بالاعتداءات، خصوصًا بعدما نقلت وكالات الأخبار العالمية والفضائيات الدولية حجم التدمير الهائل الذى طال بعض الكنائس المعتدى عليها.
والحقيقة أنه لا يمكن إسناد المسئولية عن هذه الأفعال، وتحديد الجاني فيها دون الوقوف على حالة الاستقطاب التي أنتجت خطاب كراهية شديد الحدة، عبَّأ نفوس من قاموا مباشرة بالاعتداء بتلك الرغبة الشديدة في ممارسة العنف بحق الأقباط.
لا يمكن نفي دور الإخوان المسلمين ونحن إزاء هذا الكم من التحريض الذي حفل به خطاب قيادات الجماعة، ولا يمكن تجاهل تلك الرسائل المباشرة المقدمة لقواعد الجماعة وأنصارها من التيارات الإسلامية، والمجتمع كله.
ولعل القراءة الواعية لهذا النوع التحريضي من الخطاب، الذي اعتمدته تيارات الإسلام السياسي يحتم العودة بنا إلى بدايات ثورة 25 يناير، وبزوغ روح الاستقطاب على محك الدين خلال الاستحقاقات السياسية التي تلت عزل مبارك، بدءًا من الاستفتاء على الإعلان الدستوري في مارس 2011 ثم الانتخابات التشريعية وبعدها الانتخابات الرئاسية. حَفِل مشهد الاستفتاء على الإعلان الدستوري بخطاب ديماجوجي طائفي ارتكز على ميراث من الشحن وأحداث التوتر الطائفي الموروثة من النظام السابق. وقد جَنَت الجماعة وأنصارها ثمار هذا الخطاب، بتحجيم خطاب الجامعية السياسية، والتآلف خلال هذه الاستحقاقات، لصالح صعود الجماعة. من جهة أخرى، تولدت لدى الأقباط هواجس متزايدة، ازدادت مع الوقت، ومع تنامي الطائفية، غلفها شعور بالخوف من التوجهات السياسية والاجتماعية لحكامنا الجدد، لاسيما أن الخطاب الصادر من القيادات ظل اقصائيًّا وداعيًا إلى التمييز ضد المخالفين بشكل واضح وصريح.
كان تصاعد العنف الطائفي خلال فترتي المجلس العسكري والرئيس المعزول محمد مرسي، يشير بوضوح إلى دورِ يقوم به قسم معتبر من التيارات الإسلامية في صناعة الأزمات الطائفية، ورغبتها في التحكم في المجتمع من منظور طائفي، مع تهميش دور القانون لصالح التدخلات العرفية التي تسمح لها بمساحة أكبر من الحضور، مع علاج المشكلات بشكل مؤقت ودون الإمساك بجذورها، وبترتيبات لا تكفل جبر الضرر وتسمح بوضوح بإفلات المعتدين من العقاب.
مع سعي الرئيس المعزول لتمكين أنصاره من المواقع الحيوية في الدولة، ونكوصه عن تنفيذ وعده بأن يكون رئيسًا لكل المصريين وليس لجماعته فقط، اتسعت مع تطورات الموقف السياسي في عهده فجوة الثقة بين الأقباط من جهة والدولة وقيادات تيار الإسلام السياسي. كان مرسي قد وعد بتعيين نائب مسيحي له، ووُجِهَ بحملة ضغط من تيار الإسلام السياسي، وسرعان ما رضخ للأصوات المتشددة من جماعته وأنصاره التي اعتبرت ذلك حرامًا، وتقلص معنى منصب الدكتور سمير مرقص كمستشار للرئيس، إذ خلا من أي مسئوليات واضحة. ورغم نقدنا لمنهج المحاصصة الطائفية، كان منتقدًا وبشدة نقض مرسي للعرف السائد طوال حكم مبارك بتعيين وزيرين قبطيين على الأقل في كل تشكيل وزاري، وقلص ذلك إلى وزير واحد هو الدكتورة نادية زخاري كوزيرة دولة للبحث العلمي، وانطبق التوجه ذاته من مرسي مع الانسحابات من الجمعية التأسيسية لوضع دستور 2012 المعطل، فلم يعبأ بمخاوف أنصار الدولة المدنية، ولا هواجس ممثلي الكنائس المنسحبين جراء إحساسهم بأن المطروح دستوريًّا يفتح الباب للتمييز الديني وانتهاك الحريات.
في سياق موازِ، كان ثمة تطور لافت؛ فكما أزاحت ثورة 25 يناير الخوف عن صدور المصريين، وزرعت روح التمرد عند قطاعات كبيرة منهم، فقد ضخت الثورة من روحها في شباب الأقباط، فخرجوا بالكنيسة إلى المجتمع، وباتت تظاهراتهم أمام مؤسسات الدولة كمبنى الإذاعة والتلفزيون بماسبيرو وميدان التحرير ومجلس الشعب تمثل نقلة في الخطاب القبطي المطلبي، من مستوى الحركة الحقوقية المنغلقة على ذاتها إلى الحركة الاحتجاجية المتسعة المتفاعلة مع المجتمع، وكافة حركاته وأحزابه المناصرة لقضية العدالة والمساواة.
هذا التطور غير كثيرًا من ملامح تعامل النظام الحاكم مع الأقباط، كما غير من تعامل الكنيسة نفسها مع الأقباط. فقد فقدت صيغة اعتبار الأقباط مجرد رعايا للكنيسة تستخدمهم للحشد ودعم النظام الحاكم أي قبول. وضعفت بشكل لافت سلطة قيادات الكنيسة الدينية على أعضائها فيما يخص القضايا غير الدينية، إلى درجة اضطرت معها الكنيسة مرارًا أن تسير خلف الشباب الثوري وتلحق بحركتهم مخافة أن تظهر مهمشة وخارج الصورة. تظاهر شباب الأقباط على غير رغبة قيادات الكنيسة عدة مرات رافعين مطالب حقوقية، لا تعكس المطلبية الدينية التقليدية للكنيسة، وفي كثير من الأحيان لم يستجيبوا لمطالب الأساقفة بفض تظاهراتهم التي نظمت في بعض الأحيان داخل الكاتدرائية ذاتها وضد البابا نفسه.
بشرت هذه المعادلة بواقع مغاير، يقوم على مواطنية الأقباط الكاملة، وأن الأقباط لا يرضون بغير حقوق المواطنة المتساوية مع أقرانهم في المجتمع، وهو ما يضع على أجندة التغيير الثوري استحقاقات للأقباط تخص استكمال حقوقهم المنقوصة.
وبالطبع هذه المعادلة تتناقض ومنحى يفضله التيار الإسلامي ومن قبله التيار الغالب داخل مؤسسات الدولة الأمنية، تصطبغ فيه الدولة بطابع ديني معين، وخطاب تمييز طائفي انتهجته الجماعة وأرادت التلاعب به من أجل تحصيل الحشد الشعبي. وظهر جليًا في تصريحات قيادات جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها، الذي تحول مع الأزمة الأخيرة من خطاب يحفل بروح التمييز، إلى خطاب يحض مباشرة على الكراهية ويدفع صوب العدوان والعنف.[1]
خلال عامين ونصف من الثورة، كانت الأزمات تُلقى في طريق المصريين التواقين إلى التغيير الديمقراطي، وجاءت الأزمة تلو الأخرى، أزمات اقتصادية واجتماعية متوالية أنتجت احتجاجات واضطرابات متصاعدة. وكان على جماعة الإخوان وقطاع عريض من التيار الإسلامي البحث عن مسوغ للفشل تصدره لقواعدها الشعبية وللمصريين الغاضبين، فوجدت بعض القيادات والرموز الإعلامية لهذا التيار ضالتها في الأقباط الذين صُوِّرُوا كمحاربين لدين الإسلام ورافضين للهوية الإسلامية، وأنهم يسعون لإعاقة عمل أول رئيس مسلم. ولم يكن غريبًا ضمن هذا الخطاب، أنه منذ أحداث الاتحادية صَعَّدت الجماعة من خطابها التحريضي، وعمدت إلى تسويق صورة زائفة، هي أن كل معارضي مرسي والذين يقتحمون مقار حزب الحرية والعدالة ويعطلون عجلة الإنتاج هم: "أقباط وفلول وعلمانيون". [2]
وانعكس ذلك في خطاب مرسي الذي ألقاه في 27 يونيو الماضي وأظهر فيه عدم ارتياحه للعلاقة مع الأقباط، وأن النفوس بها ما لا يقال في اللقاءات الرسمية. وكأن ليس من حق الأقباط ممارسة حقهم الدستوري والقانوني في التظاهر والاحتجاج ضد أي مسئول أو مؤسسة، وهو الحق الذي مارسته جماعة الإخوان المسلمين ذاتها قبل ثورة 25 يناير، ومارسه أغلبية المصريين فيما بعد في مناسبات عدة سياسية واقتصادية.
عقب حركة الاحتجاجات الواسعة التي أطاحت بمرسي بعد تدخل الجيش، وصل تحريض قادة جماعة الإخوان المسلمين لأنصارها ضد الأقباط إلى ذروته، وصار تهديد الأقباط عبر مكبرات الصوت في منصتي رابعة العدوية والنهضة شائعًا. هرعت الجماعة إلى هذه الورقة بدلاً من قيامها بنقدٍ مسئولٍ للذات ومصارحة المصريين بصعوبة إدارة الدولة، وكان لهذا التحريض بالطبع أثره المباشر والواضح على سلوك المشاركين في التظاهرات والمسيرات التي نظمتها الجماعة، فبالإضافة إلى الهتافات الدينية الإسلامية التي كان يرددها المشاركون عند أبواب الكنائس التي يمرون بها، وجدنا هتافات عدائية وبعضها تضمن كلمات بذئية وسب وقذف مباشر، وذلك ضد الأقباط والبابا تواضروس الثاني، كما كُتبت ورُسمت على جداران الكنائس في معظم محافظات مصر مثل هذه العبارات المحرضة والمهينة، ووصلت الكتابات من هذه العينة إلى أسوار الكاتدرائية المرقسية نفسها، وكان لافتًا في بعض مدن وقرى الصعيد، أن وضعت علامات مميزة على ممتلكات الأقباط مع وصول تهديدات لأصحابها، وكان منذرًا بالكارثة أن نَظَّمَ أنصار الجماعة مسيرات بالسيارات في بعض القرى ذات الأغلبية المسيحية، والتي لا ينتمي إليها المشاركون، وتم خلالها ترديد عبارات مسيئة إلى الأقباط من خلال الميكروفونات.
هل بعد كل هذا يمكن الالتفات إلى قول من يقولون إن الفاعل غير معروف، أو أنها أفعال صبيانية لمتشددين، وأن القيادات منها براء. أليس من المسئولية أن نعترف أن الفعل المشين هذا لم يكن ليحدث بهذا القدر من الاتساع والتزامن دون جرعة الشحن والتحريض المكثفة، وخطاب ممتد يحض على الكراهية.
ولعله من المفيد ههنا أن أشير إلى حادثتين وقعتا بمحافظة المنيا ولهما دلالة بالغة بخصوص الخطاب التحريضي ومسلك قيادات جماعة الإخوان وأنصارها. الحادثة الأولى وقعت في يومي 3 و4 يوليو الماضي بقرية دلجا جنوب المحافظة، وفيها أشعل غاضبون من الجماعة النيران في مبني خدمات تابع للكنيسة الكاثوليكية وجرى تحطيم كنيسة الإصلاح بالإضافة إلى نهب وتكسير عدد من المنازل والممتلكات تخص أقباطًا يعيشون في القرية، وذلك دون تدخل من المسئولين، واستمرت أعمال الشحن وتنظيم المسيرات المعادية للأقباط إلى أن تم فض اعتصامي رابعة والنهضة، فخرجت الحشود المؤيدة للجماعة لتحرق وتنهب وتدمر ديرًا وكنيستين ونحو ثلاثين منزلًا مازالت مهجورة. والحادثة الثانية وقعت بقرية بني أحمد الشرقية ذات الأغلبية المسيحية، وفيها تم الاعتداء على ممتلكات نحو 43 قبطيًّا، وأسرعت الجماعة الإسلامية بالمنطقة لفرض صلح عرفي، حددت له الجماعة سبعة من المحكمين، جميعهم من المسلمين، وخمسة من بينهم كانوا أعضاء بالجماعة الإسلامية، وانتهى التحكيم إلى قرار بالتصالح يقوم على تنازل أقباط القرية عن المحاضر المحررة بأقسام الشرطة وعدم تعويضهم عن خسائرهم، وذلك بعد إرهابهم وتخويفهم إذا رفضوا الصلح!
الاعتداءات كلها تزامنت وتحركت الحكومة لفض اعتصامي رابعة والنهضة. وتبين الإفادات المتواترة لأكثر من حادث نمطًا محددًا للعدوان، يبدأ من مواقع الاعتصامات المناصرة للإخوان وغالبها في ميادين رئيسية ببعض المحافظات، حيث تخرج مسيرة غاضبة وتتجه في مسارها صوب الكنائس والمباني التي لها صفة دينية، ويقوم الغاضبون باقتحامها والاعتداء على من بداخلها، ويصل الأمر إلى نهبها وحرقها، ويقع العدوان كذلك على ممتلكات الأقباط التي يتصادف مرور المسيرات بها. ولدينا ههنا مثالان أحدهما من ميدان الثقافة بمحافظة سوهاج؛ إذ خرج أنصار مرسي بُغية اقتحام المطرانية التي تبعد أمتارًا عن الميدان وقاموا بإحراقها، كما شارك معتصمون بميدان بلاس بالمنيا في الاعتداءات على الكنائس، وبخاصة المتواجدة في منطقة أبو هلال التي يغلب عليها نفوذ الجماعة الإسلامية.
واستخدم بعض قيادات التيار الإسلامي مساجد القرى للحشد والخروج للانتقام من الأقباط الذين ساندوا الجيش وعزلوا مرسي، وقد استمع كاتب هذه السطور لشهود عيان مسلمين حاولوا منع حرق الكنائس، لكنهم فشلوا أمام الأعداد الهائلة المشاركة، فحموا منازل الأقباط من الاقتحام، وحصل على شهادات موثقة بأن الإخوان استخدموا المساجد للحشد والاعتداء على الأقباط.
وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأن كل المشاركين في الاعتداءات على الكنائس والأقباط من جماعة الإخوان، ففى الصعيد لا يمكن التفريق بين المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين أو المنتمين إلى التيار السلفي أو الجماعة الإسلامية، فالوصف الأكثر شيوعًا هو الجماعة السُّنية أو المنتمين إلى التيار الديني، وكذلك هناك من شارك في الاعتداءات بدوافع أخرى كالنهب والسرقة، وهناك من شارك بدوافع " كسر" المسيحيين وبخاصة في القري ذات النفوذ الاقتصادي المسيحي.[3]
وهذا بالضرورة لا يعفي الجماعة والتيار الديني بشكل عام من المسئولية عما جرى من اعتداءات، لكونهم محرضين عليها في العموم، وفي أحيان أخرى كان منهم قادة ميدانيون ومنفذون. وما يجري من محاولة لإخلاء طرف جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها من المسئولية عما حدث يصب في النهاية في مساعدة المعتدين على الإفلات من العقاب.