الأقباط متحدون - صفحة من تاريخ مصر مصر والمرأة.. ضد التأسلم (18)
أخر تحديث ٠١:٥٧ | الاربعاء ١١ سبتمبر ٢٠١٣ | توت ١٧٣٠ ش ١ | العدد ٣٢٤٨ السنة الثامنة
إغلاق تصغير

صفحة من تاريخ مصر مصر والمرأة.. ضد التأسلم (18)

بقلم : د.رفعت السعيد

ونأتي إلي سيدة اليسار العظيمة «سيزا نبراوي» وقبل أن أبدأ هذه الكتابة عثرت بالمصادفة علي محضر نقاش أجريته معها عام 1970 كنا معا في جولة أوروبية للدعوة للقضية المصرية مطالبين أوروبا عبثا بالوقوف ضد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، الدعوة نظمتها لجنة دولية «اللجنة الدولية للدفاع عن حقوق الشعب المصري» وقد تأسست هذه اللجنة كأحد نتائج مؤتمر دولي عقد في القاهرة بدعوة من المجلس المصري للسلام الذي رأسه خالد محيي الدين وتشكلت هذه اللجنة برئاسة كريشنا مينون وعضوية خالد محيي الدين – سيزا نبراوي – أنديرا غاندي – مسز باندرانيكا – جاك بيرك، كنا معا في برلين وجلسنا نشرب كابيتشينو «وكانت أول مرة أسمع بهذا الاسم» في مقهي جميل بشارع انتروين لندن والذي ترجم مصطفي المنفلوطي رواية تحمل اسم الشارع وترجمه «تحت ظلال الزيزفون» هي أخبرتني بذلك وكانت تنتصب علي جانبي الشارع أشجار جميلة لابد أنها زيزفون، وفجأة أخرجت ورقا وقلما وقلت أن أكتب عن تاريخ اليسار المصري وأريد أن أسجل معلومات عنك، وقبل أن تستفيق من دهشتها قلت «سسيزا هانم» سمعت قصة غريبة عن نشأتك وأن سيزا ليس اسمك الحقيقي فقالت «هذا صحيح، من أين عرفت ذلك» قلت أنا شغوف بجمع المعلومات عن اليسار، وبدأت سيزا نبراوي تحكي حكايتها، بلغة عربية سليمة ولكنها لكنة ذكرتني بلكنة د. بطرس غالي ومحمد سيد أحمد.. مصرية صرفة وعربية متقنة ولكنها ذات جرس مختلف، قالت «اسمي زينب محمد مراد، ولدت في 24 مايو 1898، عشت مع سيدة طيبة نشأت منذ صغري علي أنها أمي، لكنها كانت علي مشكلات دائمة مع زوجها وانتحرت عام 1913، هذه الأم غير الحقيقية ماما عديلة تركتني في سن 15 عاما ووجدت نفسي وجها لوجه مع أبي الذي كان شديد القسوة وشديد الرجعية وكرهته لأنه كان السبب في انتحار ماما.

وكان أبي يفرض علي حياة محافظة تماما، لا خروج من المنزل، والبرقع والحجاب والجلباب الواسع الأسود هو الزي الوحيد، ولم أطق هذه الحياة ولم يطقني هو، وأرسلني إلي أقارب في القاهرة، هناك سمعت منهم قصة معقدة عن أمي الحقيقية وكيف أن ماما عديلة ليست أمي وإنما هي قريبة لأمي الحقيقية، وانهرت تماما، وأغلقت غرفتي وأنا داخلها وظللت أياما بلا طعام والباب مغلق ولا أستجيب لأحد وكنت أفكر في الانتحار، وأنقذتني من هذه الحالة هدي هانم شعراوي وكانت صديقة حميمة لماما عديلة، منحتني هدي هانم حياة جديدة وأفكارا جديدة وشجاعة لم أكن أحلم أن أمتلكها، أما اسم «نبراوي» فهو لقب عائلة ماما عديلة، وهو شخصية شهيرة في التاريخ وكان الطبيب الخاص لمحمد علي باشا وأسرته ومنحه محمد علي أراضي كثيرة جدا»، وهنا أوقفتها قلت لها هل تعرفين قصة النبراوي باشا؟ فقالت: ليس أكثر من أنه طبيب شهير، فقلت هناك كتاب جميل اسمه «حلية الزمن في سيرة خادم الوطن رفاعة بك رافع» كتبه صالح بك مجدي وهو أحد تلاميذ رفاعة وفيه أن النبراوي كان ابنا لفلاح فقير أرسله أبوه بحمل بطيخ ليبيعه في القاهرة وكان الأب قاسيا وشدد عليه أن يعود سريعا فبقية الأسرة بلا طعام، وفي الطريق وقع حادث وتكسر البطيخ، وخاف الولد، ولجأ إلي الأزهر ليجاور هناك، وفي أروقة الأزهر نبغ نبوغا لفت إليه أنظار رفاعة الطهطاوي فأخذه إلي مدرسة قصر العيني وكان يشرف عليها وهناك لفت نبوغه الأنظار فسافر بناء علي توصية رفاعة ليدرس الطب، وعاد ليصبح أكثر الأطباء شهرة فاختص به «وقاطعتني يعني إيه اختص فقلت يعني احتكره» لعلاجه وعلاج أسرته، وبناء علي إلحاحها وعدتها بأن أعطيها الكتاب عندما نعود للقاهرة، وسلمتها الكتاب وطلبت بإلحاح أن أتركه لها.. وكان الطبعة الأولي وربما كان نادرا جدا ومع ذلك تركته لها راضيا» وبعد هذا الوعد، وبعد أن عرفت قصة من تسميت باسمه انطلقت تتحدث بحماس «علمتني هدي هانم كل شيء، وفي عام 1919 شاركتها بحماس شديد في الإعداد للمظاهرة النسائية الأولي في تاريخ مصر، وكنت أقود الهتاف «عاش سعد.. عاشت مصر حرة.. يسقط الاحتلال» وهكذا تحولت من فتاة ريفية ساذجة بائسة، إلي مناضلة سياسية ومثقفة وأتقنت اللغة الفرنسية، وأذكر يوم عودة سعد وفي المظاهرة الهائلة التي استقبلته بدأت هدي هانم بما اتفقنا عليه فهتفت يسقط الحجاب وخلعته وألقت به أرضا وداست عليه وفعلت مثلها وكذلك عدد محدود من النساء، وقد أحدث ذلك ضجيجا واسعا ورفضا حتي من بعض الوفديين المحافظين، كنت في هذا الوقت في الحادية والعشرين أفيض حماسا وحيوية، وعرضت علي هدي هانم ذات يوم فكرة الدعوة لمقاطعة البضائع الأجنبية احتجاجا علي موقف الدول الأوروبية والمقيمين الأجانب المعادي للثورة، وافقت هدي هانم، وقالت لكن هذه المهمة تليق بالشابات وكلفتني أن أتولي هذا الأمر وسريعا قمت بتجميع عشرات من الشباب منهن أرستقراطيات ومنهن طالبات وقسمتهن إلي مجموعات كل مجموعة تقف عدد من المحلات المتجاورة ولأن أغلب المحلات الشهيرة كان متمركزا في وسط المدينة فقد احدثت هذه المجموعات ضجيجا وكنت أمر عليهن ونهتف بسقوط الاحتلال ونطالب المارة بمقاطعة هذه المحال وبالفعل نجحنا في اقناع الكثيرين في الامتناع عن مجرد الدخول إليها، وكانت المفاجأة أننا وجدنا في اليوم الثالث أغلب المحلات مغلقة، وفي عام 1923 اصطحبتني هدي هانم إلي مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي وشاركت بعدها في 14 مؤتمرا دوليا، وأسست 15 جمعية نسائية، وأصبحت رئيسة تحرير مجلة المصرية (باللغة الفرنسية) ثم رئيس تحرير الطبعة العربية، وبالتدريج اكتشفت أنني اصبحت يسارية. ففي كل المؤتمرات الدولية وفي التحركات المصرية كان اليسار هو الأكثر دفاعا عن حقوق المرأة، وعندما أعلن طلعت حرب دعوته لتأسيس بنك مصر انطلقت بذات الحماس وكانت هدي هانم تدفعني إلي الاتصال بالعديد من الأسر كي نساهم في رأس مال البنك، وهكذا وجدت نفسي سيدة مجتمع مشهورة ويسارية في نفس الوقت لكنني اقرر أن هدي هانم لم تعترض أبدا علي توجهاتي اليسارية، وهذا شجعني كثيرا، وكان أهم ما تعلمته خلال هذه المرحلة من حياتي أن تحرير المرأة هو مجرد جزء من تحرير الوطن وأن مساهمة الرجال معنا أمر ضروري في هذه المعركة المشتركة»، وصمتت سيزا هانم متصورة أنها قالت كل شيء لكنني فاجأتها بصورة لم تكن مستعدة لها.. «لماذا رشحت نفسك في انتخابات أول برلمان دعا إليها عبد الناصر؟ » ابتسمت قائلة يبدو أنك تعرف كل شئ، واسترسلت: اتصل بي عدد من اليساريين وطلبوا إلي أن اترشح في دائرة مصر القديمة وكان لي نشاط اجتماعي واسع في هذه المنطقة وكانت الانتخابات مهزلة.. أولا الاتحاد الاشتراكي امتلك الحق في الاعتراض علي أي مرشح واتصلوا بي وقالوا لا يجوز أن تترشحي ضد ارادة عبد الناصر واجبت اجابة طائشة وقلت ولماذا يقف عبد الناصر ضد ارادتي في الترشح. أنا امرأة واريد أن اثير قضايا المرأة وأن اثبت حقها في مجرد الترشح. لم يعترضوا علي ترشحي ولكن حاولوا تلقيني درسا قاسيا فقد حاربوني حربا قاسية وكانوا يقولون للناس «لا تصدقوا» الولية الخواجاية وبعد الانتخابات وجهت خطابا مكتوبا إلي عبد الناصر ورغم أنني أكتب العربية جيدا عاندت وكتبت رسالتي إليه بالفرنسية وبدأتها «السيد عبد الناصر تكتب إليك هذه الرسالة «الولية الخواجاية سيزا نبراوي فقط لأقول لك أن اسمي الحقيقي زينب محمد مراد وأنني ولدت لأب من ريف الغربية وولدت في قرية قرب السنطة وجدي لأمي هو نبراوي باشا وكان أول وأشهر طبيب مصري وهو أيضا ابن فلاح فقير، فأنا مش خواجاية أنا مصرية أحب مصر وأعيش من أجل مصر وسأظل أناضل من أجل مصر» ولم يرد عبد الناصر علي رسالتي. وفي أوائل عام 1970 حصلت علي وسام لينين وكان ذلك مصدر فخر لي وللنساء المصريات وفي إحدي احاديثه قال عبد الناصر «إذا كان صوت سيزا نبراوي يشرف وطنها أمام العالم، فإن وطنها يتشرف باسمها أمام المصريين» واعتبرت هذا اعتذارا كافيا. وسؤال آخر.. متي انضممت إلي حركة السلام المصرية؟ فقالت «في عام 1951 ومع اشتعال معارك الفدائيين في القنال اتصلت بي انجي افلاطون ومعها عدد من السيدات اليساريات وأسسنا معا «اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية» وجمعنا تبرعات للفدائيين ودربنا عديدا من الفتيات علي التمريض ونظمنا عددا من المسيرات وفي ذلك الحين دعاني يوسف حلمي المحامي للانضمام إلي حركة السلام وشاركت في هذه الحركة بحماس ولم أزل حتي اليوم».

وخلال زيارة قمت بها إلي سيدني باستراليا اتصلت بي سيدة مصرية «نجاة فخري مرسي» وقدمت لي معلومات كثيرة عن سيزا نبراوي عن نشاطها في المعادي ومصر القديمة كيف أنها حضرت معها حفل تكريمها في جمعية هدي شعراوي التي منحتها وسام الكمال، وخلال عدوان 1956 كانت سيزا علي رأس اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية»، ومنذ تأسيس الاتحاد النسائي المصري «كانت سيزا هانم رئيسية ونجحت بمزيد من الضغوط في اصدار قانون يحدد سن زواج الفتاة بستة عشر عاما. وظلت سيزا هانم رمزا مضيئا للنضال النسائي اليساري حتي رحلت في 24 فبراير 1985.. ولم تزل ذكراها تمنح النساء المصريات شرفا وأملا.. واليسار المصري فخرا ومجدا.
 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter