تقوم الحياة والنظم السياسية فيما بعد الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص، ما انتشر وشاع بعد سقوط الكتلة الشرقية في تسعينات القرن الماضي، على تكوين جبهات وطنية تقوم على نظام المشاركة بين تيارات وطنية، فلا ينفرد فصيل بالحكم مستبداً بباقي مكونات المجتمع مهما كانت قوته وغالبيته، ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا الدول التي يتقارب أو تكاد تتوحد ميول وتوجهات شعوبها، فلا نجد بها غير حزبين رئيسيين يتبادلان الحكم، دون أن يحمل تفرد أيهما أية شبة للهيمنة واستئصال آخر.
لكن كيف يمكن تكوين جبهة تآلف من القوى الوطنية، قادرة على التقدم سعياً لتحقيق حياة أفضل للناس؟
يلزمنا في البداية أن نحدد الهدف، ماذا نريد بدقة، ماذا نود أن نحقق، وما هي مواصفات الحياة وطبيعة العلاقات التي نسعى لتأسيسها لكي يتحقق لنا ما نصبو إليه من رفاهية ورقي؟
يوصف الهدف Target في علم الإدارة بأنه يجب أن يكون SMART، وهي الحروف الأولى من كلمات تعني متخصص وقابل للقياس وطموح وواقعي وملموس، لننتقل بعدها لمحاولة حشد أكبر قوة ممكنة لتحقيق الهدف المتفق عليه. . هكذا لابد أن يرتبط اختيار القوى والتيارات الداخلة في جبهة التآلف بعاملين، أولهما توافق رؤى تلك القوى أو التيارات مع الرؤى والأهداف المرجو تحقيقها بواسطة مشروع الجبهة أو الائتلاف، والثاني هو إمكانية التآلف والمزج بين تصورات تلك القوى للأساليب والمسارات المفترض اتباعها لتحقيق الهدف Target، ذلك أن الاختلاف الذي قد ينجم عن تبني أساليب أو مناهج العمل قد يكون أكثر مدعاة للفرقة واستحالة التآلف من الاختلاف على الهدف ذاته، هذا إذا أردنا أن نحصل في النهاية على كيان يتمتع بالقدر المرجو من التماسك والفاعلية.
إذا أردنا أن نبسط الأمر باللجوء إلى تمثيل من واقع حياتنا اليومية، فلننظر كيف يمكن عمل "خلطة" وجبة غذائية مكونة من أنواع متعددة من الخضروات وما يضاف إليها، فإن تلك "الخلطة" لكي تكون ناجحة، لابد أن تعطينا في النهاية مزيجاً ذي صفات إيجابية، لا تتوفر لأي من العناصر الداخلة كل على حده، كما يلزم أيضاً أن تكون ذات مذاق طيب أو مستساغ، علاوة على توفيرها للمكونات الغذائية الضرورية، وإن كنا بإزاء "خلطة" تشكل مركباً دوائياً، فلابد أن تكون له القدرة على القضاء على الفيروسات المسببة للمرض، وإن كانت "الخلطة" مادة لطلاء الجدارن أو المعادن، فلابد أن يتوفر بها عنصر الجمال الشكلي، بالإضافة إلى قدرتها على حماية السطح الذي يدهن بها، علاوة على احتفاظها برونقها لمدة طويلة نسبياً، وهكذا في سائر المجالات التي تستخدم فيها "خلطات"، للحصول على مزيج يحمل صفات إيجابية، لا تتوفر لأي من العناصر المتوفرة لدينا منفردة.
هنا يكون انتقاء العناصر الداخلة في "الخلطة" قصدياً، ليؤدي كل عنصر مختار وظيفة محددة بالتناغم مع سائر العناصر الأخرى، ومن جانب مقابل ينبغي أن تخلو "الخلطة" من الشوائب أو المواد الضارة، التي تبطل عمل مكوناتها الأساسية، أو تقلل من كفاءة المزيج في تحقيق الغرض منه.
أما تلك الخلطات أو التآلفات والجبهات التي تتكون من مزيج من عناصر مجمعة عشوائياً، وقد يكون دخولها في ذاك المزيج مرجعه أن مجرد تواجدها يفرضها على الخلطة تحت مسميات أو مبادئ عدة، مثل "الحياد" أو "الديموقراطية" أو "التوافق المجتمعي"، أو لأنها موجودة في واقع الحال أو الطبيعة مختلطة بسائر العناصر بحيث يصعب فصلها، رغم أنها لا تضيف صفة مرجوة للمزيج، وقد تكون مفسدة لفاعليته، فإن مثل هذا المزيج بهذا التكوين العشوائي لا ينبغي لنا أن نتوقع منه أن يمنحنا أية مزايا كنا نفتقدها، اللهم إلا التحايل استجابة لضغوط لا نرغب أو نقدر على الصمود أمامها، وسواء أقدمنا على ذلك طوعاً أو كرهاً، فإن "خلطتنا" هكذا لن تصلح لتغذية جائع أو شفاء مريض أو طلاء حائط، وإن كان يمكن أن تصلح لخداع أنفسنا وخداع الجماهير التي تنتظر منا إنجازاً، خاصة وأن مزيجنا أو "خلطتنا" أو "جبهتنا" لن يصمد لأية اختبار أو مواجهة عملية على أرض الواقع، ولن يلبث أن تتسرب مكوناته من الوعاء المصطنع الذي جمعناها فيه، ليتبدد كل عنصر من عناصره، متباعداً متنافراً مع الآخرين!!
مثال آخر من يريد تجميع أجزاء متنوعة المواصفات، ليكون منها ماكينة تصلح لأداء عمل ما، وهو عمل يحتاج لمنهج لتجميع الأجزاء مختلف بالطبع عن عملية جمع عشوائي لأجزاء هي ما وجدناها أمامنا أو فرضت علينا لسبب أو لآخر فأتينا بها في صندوق، فمهما كان الصندوق مزيناً بالورود، والأجزاء بداخله تبدو لامعة وبراقة، إلا أنها لا تصلح معاً لتكوين ماكينة ما يمكن أن تؤدي لنا أي مهمة مفيدة.
عندما نكون بإزاء ساحة سياسية واجتماعية مثل الساحة المصرية، حافلة بعناصر التقدم باختلاف رؤاها وتوجهاته، وكذا بعناصر التخلف باختلاف درجاته، وأردنا أن نشكل جبهة وطنية أوسع ما تكون، فإن علينا أن نفرق بين أكثر من نوعية بين ما نرصد من مكونات أو تيارات:
* مكونات ضارة ينبغي استئصالها من التربة المصرية أو تحجيمها بقدر ما نستطيع، وهي ما يجب معاملته كما تم التعامل مع النازية والفاشية.
* مكونات ذات رؤى مختلفة جذرياً عما تهدف له الغالبية، ولا تصلح بالتالي لأن تكون عنصراً ضمن "الخلطة" المرجوة، أو الجبهة التي تعمل كقاطرة لابد أن تكون قادرة على السير باتجاه محدد، ورغم هذا فإن هذه العناصر في نفس الوقت ليست خطراً يهدد مسيرة قاطرتنا.
* عناصر متفقة عمومياً مع الهدف المتفق عليه، لكنها تختلف بدرجة أو بأخرى في التفاصيل وفي أساليب العمل، وهذه بالطبع صالحة لتكون ضمن الجبهة أو الخلطة التي نسير بها نحو الهدف.
* العناصر الأساسية صاحبة الرؤى في مسيرة التغيير، والتي ستقوم بإجراء الحوار مع سائر قوى المجتمع، لتصل مع المجموعة السابقة أعلاه، لتكوين رؤى مشتركة تحوز أكبر قدر من الإجماع الوطني.
هذا النهج الذي نتصوره منطقياً لتحقيق جبهة وطنية قوية وفاعلة، يمكن أن يفسده عدة توجهات قاتلة:
أولها الافتقاد للمرونة وللقدرة على الحوار البناء للوصول إلى رؤى مشتركة، والتشبث السلبي بالرؤى والأفكار الأيديولوجية، وشيوع ثقافة الهيمنة والصراع، وغياب روح وثقافة العمل الجماعي.
ثانيها محاولة تشكيل أكبر حشد ممكن، على حساب نوعية وكفاءة الجبهة التي يتم تكوينها، أو كما يقال الاهتمام بالكم على حساب الكيف.
ثالثها وجود توجهات انتهازية، تسعى لاستغلال قوى بالساحة، للاعتماد على عناصر قوتها، دون توفر قاعدة توافق موضوعي حقيقي معها.
وأخيراً تصور جبهة التوافق على أنها توافق بين أشخاص قد يتمتعون جميعاً بنوايا طيبة، رغم أن الأمر ليس أمر أشخاص أو نوايا بالأساس، وإنما المهم هو توافق الرؤى والمواقف، حيث المفترض أن الجبهة ذاهبة إلى رحلة عمل، وليس إلى نزهة خلوية يستمتع فيها الجميع بالصحبة الطيبة.
نعم العمل السياسي هو فن "الممكن"، فيما الفكر السياسي يبحث "المفترض" أو الحالة النموذجية، فإذا تطابق "الممكن" مع "المفترض" سارت الأمور باتجاه التطور الإيجابي، لكن كلما زادت الزاوية انفراجاً بين اتجاه "الممكن" واتجاه "المفترض"، كلما تعثرت مسيرة التطور، حتى نصل إلى حالة تضاد في الاتجاه بين "الممكن" و"المفترض"، ويحدث هذا حين يغلب تيار العودة بمصر مثلاً إلى أربعة عشر قرناً خلت، بينما الفكر السياسي يناقش كيف يمكن تعويض ما فات البلاد من القرنين العشرين والواحد والعشرين.
لا أخشى محاولات جماهير الإخوان إعادة عصر الظلام، فكل ما أخشاه هو السادة الذين يتصدرون للحديث باسم الثوار، من ذوي التاريخ الأسود في إجهاض ثورة 25 يناير، فالمصالحة الوطنية والتوافق المجتمعي لا يمكن أن يعني ركوب البلاد من قبل دعاة التخلف، كما لا يعني بالتأكيد التواجد في منطقة رمادية بين الحداثة وبين الغرق في هاوية التخلف، فهكذا تفعل الشعوب الفاشلة.
القول بأن "الإخوان المسلمين فصيل وطني" هو اتهام لهم هم أبرياء منه، وإن كان يفيدهم تكتيكياً، أليس هم من يهتفون "لا من أجل وطن خرجنا. . . . نحن جند الله"؟!!. . أبداً لن يفلح الشماشرجية الذين يجاهدون للتعمية وخلط الأوراق تحت مسمى "المصالحة الوطنية"، فنحن في زمن اليقظة والفرز، قد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وانتحى دعاة التخلف والكراهية والقتل ركناً في هذا الميدان أو ذاك يمارسون العواء والتهديد، ويقف الشعب المصري كله ينظر إليهم شذراً. . النصر للخير والمحبة والسلام، والمزبلة للكائنات الشوهاء التي زحفت علينا من كهوف التاريخ.
تحتاج مصر في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها إلى الجدية والإخلاص والعلم، وهي ثلاثية أخشى أن تكون نادرة فيما يبدو منذ عامين ونصف على الأقل في الساحة السياسية المصرية، لكننا بدونها سنظل نتخبط أو في أحسن الأحول نراوح مكاننا غير قادرين على الذهاب إلى أي مكان.
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com
نقلا عن إيلاف
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع