بقلم : كمال غبريال | الأحد ٢٨ يوليو ٢٠١٣ -
٣٣:
٠٨ ص +02:00 EET
قبل ثورة 25 يناير لم يكن التوريث والجمود السياسي فقط، ولا حتى الفساد المبالغ في أساطيره بما لا يقاس، بل كان الإخوان يسيطرون على الشارع الذي أخلاه لهم مبارك، يتوغلون كسرطان في مؤسسات الدولة، وكان السلفيون يتضخمون ويتوحشون في جحورهم برعاية أمن الدولة، يتخذهم زخيرة له ضد الإخوان، ويطلقهم على من يشاء حين يشاء، كما فعل حين أطلقهم على الأنبا شنودة قبيل ثورة يناير، حين خرج على ما يعتبره النظام خطاً أحمر، ولولا ثورة 25 يناير
2011 ما أتيح لهذا الشعب يقظة 30 يونيو 2013، ذلك اليوم الخالد في تاريخ مصر والإنسانية جمعاء، نقول لهذا لمن تصوروا أن قيام الشعب ليطرد الإخوان وأذيالهم من فوق ظهره هو بمثابة تراجع أو تكفير عن هَبَّة الشعب في 25 يناير، باعتبارها كانت خطأ أو خطيئة في حق الوطن، فالمسألة أو المعضلة المصرية ليست مجرد تحديد من يمسك بمقاليد السلطة، كما أن الأمر ليس صراعاً سياسياً تقليدياً بين فصائل وطنية متعددة، لكنه بالأساس معضلة تفشي أفكار فاشية ظلامية ملتحفة بعباءة الدين، وإلا كان ما يتحدثون عنه من ضرورة مصالحة تؤدي لاشتراك الجميع باختلاف توجهاتهم ومرجعياتهم في حكم البلاد رأياً وجيهاً وإنسانياً، فشتان بين ما يدل عليه مفهوم "المصالحة الاجتماعية" المثمن في عالم السياسة، وبين ما يراد لنا الآن من الإذعان لإملاءات جماعات وتنظيمات
إرهابية لا تعرف مصالحة حتى مع نفسها، وتقسم العالم إلى "دار إيمان" و"دار كفر" أو "دار إسلام" و"دار حرب"، لهذا فإن حقيقة الخلاف الآن بين الشعب المصري وأمريكا وأوروبا حول مصير من لا يصح أن نطلق عليهم لقباً غير "ذئاب الظلام"، هو أننا نريد تطهير مصر والعالم من أفكارهم، وأمريكا تريدهم كما هم، يؤدون وظيفة خادم مطيع تحت قدميها، ليكون المعروض والذي تضغط باتجاهه أوروبا وأمريكا ليس كهذا "مصالحة مجتمعية"، وإنما تفريغاً لثورة 30 يونيو من مضمونها، ليستمر إجهاض سعي مصر نحو الحداثة والحرية بواسطة تجار الدين ودعاة التخلف والإرهاب، لذا نقول أن المرحلة القادمة تحتاج للحسم، كما تحتاج لمصريين بحق جديرين بحق، بخلاف الزبد الذي يطفو الآن تحت مسمى "جبهة الإنقاذ".
هكذا أيضاً نلتمس العفو من أساتذة العلوم السياسية الذين يجرون وراء الرؤى الغربية مشوهة الليبرالية، ويصرون على تقييم ما ترتب على ثورة الشعب في 30 يونيو باعتبارها إنقلاباً عسكرياً، فمفهوم الثورة هو أنها انقلاب على أوضاع قائمة، وقد يقوم بهذا الانقلاب مجموعة من المغامرين العسكريين ليستأثروا بالسلطة لأنفسهم كما حدث في 23 يوليو 1952، وقد يقوم بها الشعب وتشاركه عصابات إرهابية كميليشيات الإخوان وحماس وحزب الله كما حدث في 28 يناير 2011، وقد يقوم بها الشعب ويستجيب له الجيش بالمشاركة كما حدث في 30 يونيو 2013، لتكن إذن 30 يونيو انقلاباً أو ما يشاء المهرفون من تسميات وتصنيفات، فقد أدت إلى ما نراه من طرد خريجي السجون وسدنة الكراهية والإرهاب من دائرة السلطة، نقول هذا للكثيرين من أمثال د. عمرو حمزاوي، الذين هم ليسوا مجرد أفراد وإلا لهان الأمر لهوان شأنهم، فهم ظاهرة اجتماعية سياسية تتفشى مع الاختلاط والفوضى، فيطل محترفو التلاعب بالعقول واللاعبون على كل الحبال برؤوسهم وألسنتهم التي تنفث سموماً لها مذاق العسل. . عندما يفتضح ذئاب الظلام يأتي دور هؤلاء، فيسترزق المسترزقون على حساب مستقبل الوطن، وكأنهم جزء من أسطورة "دراكولا مصاص الدماء"، رغم كلامهم الناعم الذي يستر أنياباً تقطر بالدماء.
لأننا لسنا ممن يهرعون لتبني أكثر المواقف مثالية وجمالاً على حساب الوطن ومصيره، لنكسب بها شهرة بالحيادية والعلمية والإنسانية، سواء كانت أعيننا على الداخل أو الخارج، لكننا نعمد إلى قلب الواقع محاولين قدر ما نستطيع فك طلاسمه وحل ألغازه، لننحت مصطلحاً جديداً هو "التصالحجية"، وهم الذين يحاولون إقناع المريض الذي تغلب على مرضه أن يحتفظ بالميكروبات والفيروسات في جسده، وأن لا يتناول مضادات حيوية تقضي عليها، وأن يكتفي بزوال أعراض المرض، باعتبار الميكروبات صار بينها وبينه عِشْرَة وصلة قرابة ورحم!!. . نحن هنا لا نتحدث كما فعلوا مع رجال مبارك عما يسمى "قصاص"، رغم جوهرية سيادة القانون وتفعيل العدالة إزاء من ارتكبوا جرائم، ومن أتوا بإرهابيين ليحاربوا الجيش المصري في سيناء، لكننا نتحدث عن استئصال فكر مدمر استشرى في بلادنا على مدى خمسة وثمانين عاماً، انحدر فيها بالمستوى الأخلاقي وبالسلام الاجتماعي، وأنتج خلالها عشرات من التنظيمات الإرهابية التي قتلت المصريين وارتكبت الجرائم والمجازر غير المسبوقة في سائر أنحاء العالم، هو إذن استئصال الطاعون من تربة مصر المحروسة ومن قلوب أهلها.
الإمعات والأراجوزات والجنس الثالث لا يقيمون دولة حديثة، فباسم التوافق والمصالحة محظور على الشعب المصري مراجعة نفسه وتطهير صفوفه من الإرهابيين وأعداء الحياة، لنكون مقدمين باسم التوافق على الدستور على إشراك الفيروسات في وضع روشتة العلاج من المرض. . قال أينشتين المصري: من الغباء أن تشرك السلفيين في لجنة الدستور للمرة الثانية وتتوقع دستوراً مختلفاً، فهل يوافق الإخوان والسلفيون على دستور يقي الوطن من أذاهم، دستور 1971 بتعديلاته 19 مارس 2011 هو أفضل ما يمكن الحصول عليه حالياً، فهل من قرار جرئ يستند لشرعية استفتاء الشعب يعيدنا إلى تلك النقطة ويرحمنا مما هو آت؟
لقد خطا الشعب المصري في 30 يونيو 2013 خطوته الأولى باتجاه الدولة المدنية والثقافة والنظام السياسي العلماني، وهي ما يقال عنها خطوة واحدة في "مسيرة الألف ميل"، علمانية تقتضي أن يحتفظ المؤمن بإيمانه لنفسه، وأن يكف الملحد عن التغني بما يتصوره عظيم إنجازه، لنذهب جميعاً لنبحث كيف نجعل بلادنا مكاناً أفضل جديراً بحياة إنسانية كريمة، كما تقتضي العلمانية أيضاً أن يكف المؤمنون أذاهم عن غير المؤمنين، ولا نتحدث هنا عن الإيمان في ذاته، بل عن المؤمنين الذين يسجل تاريخ الإنسانية هول ما ارتكبوه من جرائم باسم الإيمان، كما أنه إذا كان القتل والتحريض عليه والبذاءة وبث الكراهية وقذارة المظهر من أعمال الإيمان، فسأكون شخصياً شاكراً لمن يعتبرني من الكافرين. . هي العلمانية التي تعتمد العقل والعلم في تحديد الرؤية والعلاقات، والتي قد تضم من يؤمنون بأيدولوجيات سلطوية مثل الماركسية والنازية والفاشية والقومية العربية، لذا نشير دوماً للعلمانية الليبرالية، تلك التي تفتح صدرها لكل آخر ليعبر عن نفسه وليكون ذاته، بشرط التزامه بأسس السماحية المشتركة بين الجميع، علمانية تقول باختصار: لا تحدثني عن إيمانك ولا عن أفكارك وأيديولوجيتك، ولكن أرني أعمالك لأتبين إن كانت صالحة أم شريرة، معمرة أم مخربة، راقية أم منحطة!!
إيلاف
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع