الاثنين ٢٢ يوليو ٢٠١٣ -
٢٢:
١٠ ص +02:00 EET
ضباط انقلاب يوليو 52
بقلم: فاروق عطية
إنتابتنى الحيرة والعجب، هل الزهيمر بصيب الأمم والشعوب كما يصيب الأفراد ..؟ عن على خاطرى هذا السؤال المحير بعد كل ما قرأت من مقالات فى جميع الصحف المصرية بمناسبة الذكرى السنوية لثورة 23 يوليو 1952. جميل أن يتحدث الجميع عن إنجازات الثورة بقيادة زعيمها جمال عبد الناصر، لكن من الجحود نسيان دور محمد نجيب فيها وكان هو وجهها المشرق وبطلها المغوار بلا منازع.
صحيح أن ناصر هو الرأس المفكر والمخطط لحركة الجيش المباركة التى اندلعت ليلة 23 يوليو 1952، ولكن الشخص الوحيد الذي كان واضحا في الصورة وقتها هو ذلك الإنسان الطيب اللواء محمد نجيب الذي حمل رأسه على كفه ليلة قيام الحركة، ولو كان قدر لها الفشل لكان هو الوحيد الذى سيتحمل وذرها دون الآخرين.
كان جمال ذكيا حين اختار نجيب للقيام بهذا الدور ليكون واجهة مشرفة للحركة لأنه كان رجلا معروفا بشوشا وسيم الوجه وقورا ومثقفا "حاصل عل ليسانس الحقوق وديبلومين فى القانون تؤهلانه لنيل درجة الكتوراة"، انتخب رئيسا لنادى الضباط ولكن الملك لم يعتمد النتيجة وأصر على وضع أحد أعوانه بدلا منه (حسين سرى عامر باشا) في ديسمبر 1951 مما عجل بقيام الحركة. وكانت احتمالات فشل الحركة مرجحة لولا الدور الذي لعبته السفارة الأمريكية فى تحييد الجانب الإنجليزى المنحاز إلى الملك، فما كان أيسر قيام عدة طائرات بريطانية من قاعدة قنال السويس لإنهاء التمرد.
يقول السادات فى مذكراته عن علاقة الحركة بالأمريكان الأتى: فى فجر 23 يولبو فكرنا فى الاتصال بالأمريكان لنعطيهم فكرة عن أهدافنا، وكنا نريد من ذلك الاتصال تحييد الإنجليز. ولم نكن نعرف أحدا فى السفارة الأمريكية، وهدانا البحث إلى على صيرى الضابط المسئول عن مخابرات الطيران وكان صديقا للملحق الجوى الأمريكى "إيفانز" وأبلغ رسالتنا إليه والذى نقلها إلى جيفرسون كافرى السفير الأمريكى الذى اعتبرها لفتة طيبة من جانب الحركة.
كان عبد الناصر يخشى الظهور منذ البداية بحجة أن له أطفال صغار فى حاجة للرعاية سوف يقاسون عند الفشل. وتوجه السادات إلى السينما ليلة 23 يوليو وافتعل معركة مع أحد رواد السينما وأصر على عمل محضر فى قسم البوليس ليكون دليل ابتعاده عند الفشل. أما نجيب الذي لم يذكره أحد فقد كان شجاعا لم يرهبه الموقف وكان مستعدا لتحمل كل العواقب بمفرده.
ظللنا لمدة طويلة نحسب أن نجيب هو الرأس المخطط للحركة، ولكن بعد نجاحها وتحولها إلى ثورة بدأ ظهور الآخرين، وتولى عبد الناصر رياسة الوزارة وأراد لنجيب أن يكون رئيسا شرفيا للجمهورية ليس إلا. وفى مارس 1954 نشب الخلاف الحاد بينهما، خلاف على السلطة بين رجل يريد أن يمارس الرياسة ويصر على الديموقراطية وإعادة الأحزاب، ورجل آخر يرى أنه الأحق بالسلطة والمؤسس الحقيقى للحركة ويريدها ديكتاتورية عسكرية. وانتهى دور محمد نجيب ولقى ما لقى من عذاب هو وأسرته. اعتقل وحددت إقامته فى قصر زينب الوكبل بالمرج. ورغم سوء معاملته ظل الرجل وفيا ومجاملا، يرسل برقيات التهنئة إلى جمال عبد الناصر فى كل المناسبات القومية والشخصية. حتى صلاح سالم الذي تخصص في التشهير به فى كل المناسبات، ذهب نجيب لزيارته أثناء مرضه وعندما توفاه الله ذهب ليعزى أخيه جمال سالم الذى فوجئ بحضوره فقال مندهشا: جئت تعزينى فى صلاح بعد كل ما فعلناه بك؟ فرد عليه بابتسامته الوقور: الواجب واجب يا جمال.
فى يوم الخميس أول نوفمبر 1957 بعد العدوان الثلاثى بأيام، بعد أن تردد أن الإنجليز بعد الانتهاء من عبد الناصر ينون إعادة نجيب إلى السلطة. فى حوالي الواحدة صباحا حضر إليه المقدم الشناوى وأخبره أنه يريد إبعاده من هذا المكان القريب من المطار إلى منطقة الهرم ليكون فى مأمن من الغارات، خرج لا يحمل معه إلا حقيبة تحتوي بعض الغيارات والمصحف وبعض الكتب والمسبحة وسجادة الصلاة. لم تتجه السيارة للهرم بل اقتادوه إلى قطار الصعيد فى عربة خاصة، وفى الفجر وصلوا نجع حمادى وأودعوه استراحة الري، وبد 48 ساعة اقتاده إثنان من ضباط البوليس الحربي إلى مكان آخر، ولما سأل عن المكان كان الجواب ركلا وبصقا وإهانة. !! بعد أيام نقل إلى منزل محامي بمدينة طما وبقي في غرفة رطبة بها لمدة 51 يوما تحت حراسة مشددة، ثم أعادوه مرة أخرى إلى المرج.
تذكرت أول لقاء لى بهذا الرجل العظيم بعد قيام حركة الجيش المباركة بشهور، كنت طالبا بالمرحلة الثانوية، وكنت أحد أفراد الحرس الوطنى بالمدرسة، أنيط بنا عمل كوردون على رصيف محطة طهطا لمنع تكأكؤ الجماهير على قطار الرحمة الذي يقل رجال الحركة وعلى رأسهم نجيب. وعند توقف القطار كانت عربة نجيب فى مواجهتى تماما، ابتسم لى برقة وحنان وحيانى رابتا على رأسى.
وبعد اندلاع الخلاف بينه وبين ناصر وعزله من السلطة وتولى ناصر الرياسة قمنا بتظاهرة كبيرة مطالبين بعودة نجيب وتنحية عبد الناصر مما أدى إلى ملاحقتنا بخيالة البوليس ضاربين إيانا بالكرابيج السودانى، وما زال إحساسى بعلامة الكرباج على ظهري حتى اليوم وتؤلمني حين أتحسسها.
وعند اعتقاله فى بيت زينب الوكيل بالمرج قررت أن أزوره لأواسيه فى محنته، وتسللت خفية من الحديقة الخلفية، وكان المشهد الذي لن أنساه هو مشهد تمثال سعد زغلول باشا وقد سقط على ظهره بين صفرة الحديقة المهملة، ربما كانت تنعى دون أن تدري رجلا كان ذات يوم يوصف بأنه زعيم الأمة. تسللت من الشرفة الخلفية وكان الرجل يؤدى فريضة الصلاة، وبعد ان أنهى صلاته نظر إلى فى حيرة ولكننى أشرت إليه ألا يرفع صوته حتى لا ينبه الحراس، وافهمته أننى أتيت إليه للاطمئنان والتخفيف عنه وإخباره بمدى حب الناس له وأنهم ما زالوا يذكرونه وأبدا لن ينسوه. وفجأة أحسست بضربة مؤخرة بندقية على رأسى من الخلف فصرخت بشدة، لأفيق وأجد أم العربى تنظر إلى بعينين يتطاير منهما الشرر فآثرت السلامة وعدت للنوم العميق.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع