بقلم : عبد الخالق حسين
يواجه المثقف العراقي حالة من الابتزاز إذا ما أراد احترام عقله في قول الحقيقة، وتفنيد اتهامات باطلة موجهة إلى جهات تعتبر معادية تمَّت أبلستها وإبرازها بالشر المطلق مثل إسرائيل وأمريكا وإيران، وطبعاً السياسيين الشيعة "الصفويين" في العراق، ومهما بدت هذه الاتهامات غير معقولة. فإسرائيل عدوة للعرب لأنها اغتصبت أرض فلسطين، ومازالت تحتل الجولان السورية، ومزارع شبعا اللبنانية. وأمريكا هي حليفة إسرائيل في السراء والضراء، لذا فهي الأخرى عدوة. لذلك صار من السهولة على أية غاشمة أو منظمة إرهابية مثل فلول البعث والقاعدة ارتكاب أية جريمة بشعة في العراق وغيره، وإلقاء التهمة على أمريكا وإسرائيل، ومن لا يصدق هذه الاتهامات ويحاول تفنيدها، فهو عميل لهما!.
أما إيران، ورغم أنها تعرضت لمعاداة الغرب، والحصار الاقتصادي بسبب برنامجها النووي ومواقفها المتشددة من إسرائيل، ومساعداتها غير المشروطة للشعب الفلسطيني، فهي الأخرى تم ضمها إلى جبهة إسرائيل – أمريكا في تعليق الغسيل على شماعتها. فإيران الآن، في رأي الكثير من الحكومات العربية ووسائل إعلامها ووعاظها، هي أخطر من إسرائيل على الشعوب العربية! لذلك فكل من لا يصدق التهم الباطلة الموجهة ضد إيران، فهو عميل إيراني!.
وقد بلغ الأمر في العراق في سعار الشحن الطائفي حداً أن أي كاتب من خلفية شيعية لم يساهم في شتم إيران وإلصاق التهم بها ومهما كانت غير معقولة، ولا يشارك في تشويه سمعة السياسيين الشيعة، فهو طائفي صفوي وعميل للفرس المجوس!!. وآخر مصطلح خرج من مختبرات البعث الوهابي في هذا الخصوص هو (الصهيوصفوي) من قبل مرشح لمجلس محافظة الرمادي... ولله في خلقه شؤون.
فهؤلاء مازالوا يصرون على العداء لإيران، وجعل العراق "حارس البوابة الشرقية للأمة العربية!" كما كان في عهد حكم البعث الصدامي يوم ضحك عليه فهد، ملك السعودية، عندما قال له: "منا المال ومنك العيال -الرجال!". والمال الذي دفعوه لإدامة الحرب العراقية-الإيرانية طالبوا به بعد سقوط صدام واعتبروه ديناً مع أرباحها التي تجاوزت حجم الديون الأصلية. وهكذا يريد هؤلاء أن يكون الشعب العراقي كبش الفدى لهم وفي حالة حرب دائمة مع إيران.
شخصياً، لا أحتاج إلى شهادة تزكية من أحد لأثبت موقفي المناهض لنظام الحكم الإسلامي في إيران أو حكم البعث في سوريا، إذ نشرتُ عدة مقالات في هذا الخصوص، مؤكداً أن لا استقرار للمنطقة إلا بتغيير هذين النظامين بالبديل الديمقراطي. ولكن أن يطالبني البعض بتصديق اتهامات لامعقولة ضد إيران وسوريا، فهذا غير ممكن، وذلك لأني أحترم عقلي وأحافظ على استقلاليتي الفكرية، إذ لا يمكن أن أصدق كل ما أقرأ لا لشيء إلا لأنه ضد الثلاثي، أمريكا وإسرائيل وإيران، وإلا فأنا عميل وطائفي. من نافلة القول، أن لغة تخوين المختلف أصبحت مفضوحة، وسلاح المفلسين فكرياً وسياسياً وأخلاقياً.
مناسبة هذه المقدمة هي ما قرأنا مؤخراً في وسائل الإعلام عن «انضمام الأنبار إلى محافظة صلاح الدين في سعيها لتدويل قضية تفجير مرقدي سامراء، إثر تصريحات منسوبة إلى القائد العسكري الأميركي السابق في العراق الجنرال جورج كيسي بشأن «ضلوع» فيلق القدس الإيراني في تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء في 22 فبراير (شباط) 2006، وينوي معتصمو محافظة صلاح الدين رفع دعوى في المحاكم الدولية بذلك.» (الشرق الأوسط، 26/6/2013). (1)
والجدير بالذكر أن الجنرال كيسي أطلق هذه الاتهامات خلال مشاركته في مؤتمر للمعارضة الإيرانية (منظمة مجاهدي خلق) الذي عقد في باريس السبت الماضي (22/6/2013)، قائلاً أن النظام الإيراني «متورط بتنفيذ التفجيرات التي استهدفت مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء... ومسؤول عن أغلب الهجمات المسلحة في العراق التي تستهدف المواطنين الأبرياء» (نفس المصدر).
ونتيجة لهذه التصريحات، تحرك "الغيارى" من قادة الاعتصامات في صلاح الدين والأنبار لتدويل القضية وذلك لفضح المجرم الحقيقي، أي إيران في هذه الجريمة الشنيعة. كما وذكر المتحدث باسم المعتصمين، أن «أهالي صلاح الدين عامة وسامراء خاصة سيكلفون أعضاء مجلس النواب عن المحافظة برفع دعوى قضائية ضد فيلق القدس الإيراني، لتدويل القضية»
السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: لماذا سكت الجنرال الأمريكي كل هذا الوقت ولم يصرح بهذه التهمة إلا بعد سبع سنوات من الجريمة الشنيعة؟
ألسبب هو أن الحرب الأهلية في سوريا بلغت ذروتها وهي حليفة إيران في المنطقة، وبانت علامات هزيمة "جبهة النصرة"، ومحاولات الغرب تسليح المعارضة السورية، وبعد أن رفعت أمريكا منظمة مجاهدي خلق من قائمة الإرهاب لاستخدامها ضد إيران، بنفس الطريقة التي استخدمت فيها "القاعدة" و"منظمة طالبان" ضد النظام الشيوعي في أفغانستان. فها هي أمريكا تعيد نفس الخطأ الآن في سوريا، وربما في إيران مستقبلاً، لذلك رفعت "تنظيم مجاهدي خلق" من قائمة الإرهاب لاستخدامه كحليف محتمل. وإذا كانت التهمة بتورط إيران في التفجيرات في العراق صحيحة، فيجب محاسبة الجنرال كيسي على سكوته طيلة هذا الوقت.
نرى اتهام إيران بتفجير المرقدين في سامراء وتحميلها مسؤولية أغلب الهجمات المسلحة في العراق، تهمة من الصعوبة هضمها. فالبعثيون والمتعاطفون معهم يصفون الشيعة بعملاء إيران، وأن العراق صار مستعمرة إيرانية، وحاكمها الحقيقي هو الجنرال سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، ...الخ، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تقوم إيران الشيعية الصفوية المجوسية بقتل عملاءها الشيعة الصفويين في العراق وتفجر مراقد أئمتهم، المقدسين لدى الشعب الإيراني أيضاً؟ تفيد الحكمة: "حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له".
إن حقيقة التفجيرات هي كما نقل التقرير عن مسؤول أمني قوله: «الثابت لدينا أن تنظيم القاعدة هو الذي قام بتنفيذ هذه الجريمة التي أدت إلى إشعال الفتنة الطائفية في البلاد للسنوات 2006 – 2008». وأن «من نفذ العملية تم اعتقاله، وقد اعترفت المجموعة بكاملها، وهي نفسها التي اغتالت الصحافية العراقية أطوار بهجت في اليوم التالي»، مبديا استغرابه «من شهادة كيسي الآن ولماذا لم يعلن ذلك في وقته».
والسؤال الآخر هو، لماذا تقوم قيادات الاعصامات في تكريت والرمادي بحملة تبرئة المجرم الحقيقي من جرائم تفجير المرقدين في سامراء وحرب الإبادة ضد الشيعة؟ فالمتهمون معروفون لكل ذي عقل سليم، وقد ألقي القبض على الألوف منهم وهم من فلول البعث وحلفائهم من أتباع "القاعدة". ألا يعني ذلك أن المعتصمين متعاطفون مع المجرمين الحقيقيين، إن لم يكونوا منهم ؟
إن لعبة توجيه الاتهامات إلى إيران في جرائم البعث ليست جديدة. فعندما استخدم صدام الغازات السامة في حلبجة ألقى التهمة على إيران، وكانت أمريكا على علاقة ودية مع صدام آنذاك، حيث ساعدته عسكرياً وإعلامياً واستخباراتياً في حربه على إيران، فأيدت اتهام إيران بالجريمة. ولكن بعد ان تغير الوضع بارتكاب صدام حسين جريمة غزو الكويت، غيرت أمريكا موقفها منه فاتهمته بجريمة حلبجة. ونفس اللعبة تقوم بها بعض الجهات الأمريكية ضد إيران اليوم، وما تصريحات الجنرال كيسي إلا جزء من هذه اللعبة. فالعرب مغفلون يمكن التلاعب بعقولهم، ولماذا لا يعاد إنتاج الكذبة بإلقاء تهمة التفجيرات في العراق على إيران الآن؟
وتكررت محاولة إبعاد التهمة عن المجرم الحقيقي وإلقاءها على إسرائيل في حملة روج لها الإعلام البعثي وأعداء العراق الجديد في جريمة قتل المئات من أصحاب الكفاءات العلمية والطبية بعد سقوط حكم البعث. فقام هؤلاء بإلقاء التهمة تارة على إسرائيل، وأخرى على أمريكا، وثالثة على إيران ومليشياتها "الشيعة الصفوية"! جاء ذلك في تقرير مفبرك بعناية فائقة ألقيت التهمة على الموساد، وبعنوان مطوَّل: (ما لا تعرفه عن تشريح قضية مقتل 730 عالم وأكاديمي عراقي على يدِ الموساد.. وتخطيط بياني موثق لمن تمّ استهدافهم ولماذا.! - صور بيانية مرفقة ) (2)، مع صور وجداول وخطوط بيانية "أكاديمية" في محاولة من مؤلفيها لخدع العراقيين وغيرهم، وإبعاد التهمة عن المجرمين الحقيقيين الذين هم فلول البعث، الذين قرروا تدمير العقل العراقي بعد أن دمروا المؤسسات الاقتصادية وقتلوا مئات الألوف من أبناء شعبنا. وقد فضحنا أكذوبتهم هذه في مقالنا الموسوم: (من وراء قتل العلماء والأكاديميين العراقيين؟)(3).
فكعراقيين، نحن أعرف من غيرنا بتاريخ البعثيين وأخلاقيتهم وطرقهم الخبيثة في قتل الخصم والسير في جنازته، وإلقاء التهمة على جهات معادية لهم، لتبرئة أنفسهم من الجريمة وبذلك يرمون عصفورين بحجر واحد.
على أثر انتقادي لأمريكا على محاولتها لتسليح المعارضة السورية، كتب أحد المعلقين على المقال بأني غيرت موقفي من أمريكا !. في الحقيقة أنا مازلت أعتقد أن أمريكا تحارب الإرهاب، وتعمل على نشر الديمقراطية في العالم وبالأخص في دول الشرق الأوسط. ولكن المشكلة في غاية التعقيد. فأمريكا دولة ليبرالية، وأنا كإنسان مؤمن بالديمقراطية الليبرالية، أمتلك الحق في تأييد أمريكا عندما تقوم بعمل أراه صحيحاً، وانتقدها إذا ما ارتكبت أخطاءً من وجهة نظري، خاصة إذا كانت هذه الأخطاء تمس مصلحة العراق ودول المنطقة، ومستقبل الديمقراطية فيها. النظام الأمريكي ليس ضد النقد مطلقاً، فالنقد أساس التقدم، وبدونه لا يمكن تصحيح الأخطاء.
قلنا مراراً أن أمريكا ليست جمعية خيرية، بل هي دولة عظمى، ودولة مؤسسات، تتكون من جهات عديدة متصارعة فيما بينها، ومختلفة في مواقفها من القضايا العالمية حسب ما تقتضيه مصالحها. والذين يعتقدون أني غيرت موقفي من أمريكا لا يرون الأمور إلا بلونين، الأبيض والأسود، غير قادرين على رؤية الألوان الأخرى. فإذا كان يحق لحزب أمريكي معارض، وحتى أعضاء في الحزب الحاكم أن ينتقد الإدارة الأمريكية على بعض سياساتها في منطقتنا، فلماذا لا يحق لنا، نحن أصحاب القضية، أن ننتقدها عندما نرى أنها ترتكب خطأ يمس مصلحتنا، بل وحتى مصلحتها على المدى المتوسط والبعيد؟ فالنقد ليس عداءً كما يراه العقل العربي الذي لا يميز بين النقد والعداء.
عندما انتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمريكا في مؤتمر صحفي مع كاميرون في لندن بقوله: "أمريكا تقاتل الإسلاميين في أفغانستان.. و تحاصرهم في غزة.. و تحاربهم في مالي .. وتناصرهم في مصر .. و تسلحهم في سوريا"، فهذا ليس رأياً قابل للاختلاف والجدال، بل معلومة نعرفها من وسائل الإعلام وهي حقيقة على أرض الواقع. لذلك ننتقد أمريكا في هذه السياسة لأننا نعتقد أنها على خطأ هذه المرة في تعاملها مع الإسلاميين بمعايير مختلفة. وحتى تشرتشل الذي كان أقرب حليف لأمريكا أنتقد الأمريكيين بقوله: "الأمريكيون ينتهون بالعثور على الحل الجيد لكن بعد أن يكونوا قد استنفدوا جميع الحلول السيئة".
إن الغرض من شحن الناس بالعداء ضد إسرائيل وأمريكا وإيران، هو لتبرئة البعثيين وحلفائهم أتباع القاعدة من الجرائم الشنيعة التي يرتكبونها ضد الشعب العراقي، ومن يعارضهم على ذلك يلصقون به صفة العمالة لأمريكا والصهيونية وإيران!!
إن رفضنا تصديق اتهامات غير معقولة ضد إيران أو إسرائيل أو أمريكا هو لأننا نحترم عقولنا، فكيل هذا النوع من الاتهامات ضد الخصوم إهانة لذكاء جمهور القراء، ونحن نرفض أن نكون من السذج الذين يصدقون كل ما يتلقون دون إعمال عقولهم لمعرفة الحقيقة من أكاذيب البعثيين.
كذلك هناك جماعة تتظاهر بالبساطة المصطنعة، فيردون: يا أخي البعث انتهى منذ عشر سنوات وأنت باتهامك البعثيين بكل مصائبنا تمنحهم شرفاً لا يستحقونه!! في الحقيقة، هذا الكلام ليس بريئاً، بل هو جزء من محاولة البعثيين لتمرير أكاذيبهم. فالبعثيون الآن مندمجون مع القاعدة بحيث من الصعب التمييز بين البعثي والقاعدي، ويعملون علناً باسم أهل السنة تحت يافطة الاعتصامات التي يقودونها بحجة تهميش العرب السنة، والغرض الحقيقي من أعمال الشغب هذه هو إسقاط النظام الديمقراطي، وعرقلة الاستقرار وإشعال حرب طائفية على أمل إعادة حكمهم الساقط... ولكن هيهات.
ـــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات علاقة بالموضوع
1- الأنبار تنضم إلى محافظة صلاح الدين في سعيها لتدويل ... - الشرق الأوسط
http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=12629&article=733867#.Uc3MQTuThdE
2- ما لا تعرفه عن تشريح قضية مقتل 730 عالم وأكاديمي عراقي على يدِ الموساد.. وتخطيط بياني موثق لمن تمّ استهدافهم ولماذا.! - صور بيانية مرفقة
http://www.almorabit.com/main/ar/almorabit-arabic-articles/34-articles-cat-ar/9839--730-.html
3- عبدالخالق حسين: من وراء قتل العلماء والأكاديميين العراقيين؟
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/index.php?news=533